نفَس عَميقْ
بشرى الحكيم
عندما غنت السيدة أم كلثوم أنت عمري، قوبلت ببعضٍ الاستهجان في البداية، إذ كان هناك دخيل جديد إلى اللحن هو صوت الآلات الكهربائية، الأمر الذي شكل لديها نوعاً من القلق والتردد لقبولها، حتى أن أصواتاً وضجيجاً خافتاً ارتفع في الصالة أثناء تقديمها الأغنية على المسرح. ومثلها أيضاً أغنية عبد الحليم حافظ “قارئة الفنجان” التي استقبلت بأصوات تعالت في الصفوف الأخيرة للمسرح، تحولت إلى فوضى وصلت حد توجيه الإهانة لصاحب أغنية صافيني مرة وأغنيات أيام زمان، التي استنكر جمهوره أن يحيد عنها، ما جعله يتردد في تقديمها فيما بعد إلا أمام جمهور محدد يعتبر من النخبة، لتصبح الأغنية التي كتب كلماتها نزار قباني من الأغاني المفضلة لجمهور عبد الحليم، كما أنت عمري بالنسبة لمحبي صوت “الست”.
هكذا أيضاً واجهت السيدة فيروز غضب البعض من محبيها عندما غنت “ع هدير البوسطة” وقد رأى في كلماتها شيئاً من الانحدار والتنازل عن السوية التي تنتهجها صاحبة الصوت الملائكي في أغانيها عبر تاريخها الفني، وتتناولها أقلام صحفية بالنقد اللاذع حين قدمت “كيفك أنت” إذ قرأ بين سطور الكلمات تشجيعاً لما هو غير لائق بسفيرتنا إلى النجوم، المثير أنها جميعها؛ أغانٍ تنال اليوم من الحظوة لدى المستمع ما يجعلها تتردد في الإذاعات يومياً. هل هو التغيير في الذائقة؟ أم أنه الجمهور الذي لا يحب التغيير، وينتظر أن يأخذه الرأي العام في النهاية فيقبل ويتقبل وينخرط بين المرددين!.
وهي حين بدأت شراكتها الفنية مع المبدع زياد لم تنل كل الرضا من مستمعٍ رأى أنه لم يستطع إكمال المجد الذي صنعه الرحابنة الأوائل، وبقيت ثقافته الموسيقية المختلفة عنهم تشكل نقطة الخلاف، إذ يعتمد اللحن خلفية للصوت والكلمات، وهو ما لم يعتاده محبو فيروز في شراكتها الأساسية مع الأخوين، بل إن الكثيرون كانوا ومايزالون يرون في مرحلة زياد نجاحاً على حساب الصوت الملائكي.
اليوم ومع أغنيتها “لمين” التي تحيي بها ذكرى عاصي، تعاد القصة ذاتها، فيتهم اللحن بأنه خلفية هزيلة للصوت، ويعاب على النص كلماته التي لم يحاول الذهاب إلى عمقها، فتنعت أسئلتها الوجودية بالساذجة!! أتراها تقبل فيروز بكلمات ليس لها معنى؟.
ما لنا ولكل هذا الكلام، ستغدو الأغنية بعد حين على كل لسان كالمعتاد ويكفينا أن صوتاً ثمانينياً ما زال قادراً على تحدي الزمن والعمر والشيخوخة، ويمتلك من النقاء والقدرة ما ينقلنا إلى أبعد فضاء، ويحلق بالروح فوق الغيوم. فخذي نفساً عميقاً أيتها السيدة؛ وأطلقيه كي يطرب الكون، لا يضير اللحن أن يتكىء على الصوت، لا يضير المؤمن إن تعثر الناي استناده على صوت الملائكة.