ثقافة

النقد “السلبي” ليس شأناً شخصياً!

من طبيعة العمل الفني أياً يكن، إثارته للنقاش والجدل عند الأقلام النقدية، تلك الممتدحة منها أو تلك التي تجد مشاكل فنية لم يقدر العمل الفني على حلها، فجاء ناقصا، وأحيانا مخطئا كما وجدته هناك، أيضا دخول وسائل التواصل الاجتماعي على الخط لتصبح هي من تعطي الشرعية الفنية لهذا العمل أو ذاك عند الجمهور، وذلك بعد ضخ إعلامي فيسبوكي تويتري انستغرامي متواصل، يسعى لمصادرة رأي المتفرج، وهذا هو عمل موظفي هذا العمل أو ذاك، حيث يقولون ما لا يقوله العمل نفسه، هذا جيد عموما، ولكن في الواقع وعلى مدى الزمان كان وما زال النوع السلبي من النقد- هكذا يوصف رغم أنه هو الإيجابي بشكل فعلي وحقيقي- هو من يعطي العمل الفني فرصة ليكون حديث الجمهور، بمعنى آخر من يجعله الأكثر شعبية، سواء من وافق ذاك هواه أو من خالفه، إنه النقد آلة بناء الأدب والفن عموما.
إلا أنه أي –النقد عموما-ليس من المستحسن لدينا محليا، سواء في الشعر أو المسرح أو السينما أو الدراما التلفزيونية، ولا في أي شأن آخر من شؤون الحياة كما يبدو، حيث يُعتبر في حال صوب على أخطاء هذا العمل أو ذاك، موقفا شخصيا، وهكذا يُعامل من قبل العمل المنقود والقائمين عليه، دون أي تفنيد لحجة الناقد إلا بالتشكيك بنواياه! وهذا لعمري لعجب عجاب، وكأن حالة النقد حالة معيبة ولا تليق بحياتنا وأوضاعنا ولا بإبداعنا!، والمشكلة أنه وفي الوقت الذي توجد فيه مقالات “مدّاحة” بغير حساب، تمدح هنا وهناك دون دراية، في هذا الوقت هي تتجاهل الواقع وتتجاهل المشكلة التي يجمع عليها الناقد العفوي “المتفرج” قبل المختص، عن تردي الحال الفنية والأدبية بشكل عام في البلاد.
ومن الفئة التي لا تقبل النقد الجاد، ولا تعمل على تصويب عملها بعد كل الانتقادات الحادة الموجهة لها من العديد من النقاد الدراميين المختصين، بقدر ما هي تسعى لظاهرة النجومية الفنية قبل أن تسعى لأن يكون لما تقدمه من فن في هذا الزمن الصعب، عظيم الأثر في توجيه الرأي العام وتقريب ميوله، بدليل أنها لا تتعامل معه أي النقد، على أنه تقييم لحالها إذا حدث وشطّ بها إبداعها حيث يصبح بلا معنى أحيانا، هم فئة المخرجين عموما، إنهم لا يقبلون النقد إلا ما وافق منه هواهم، وجاء يمدحهم على أي شيء يفعلوه حتى لو كان “كوكتيل” لا صفة أو نكهة أصيلة له.
وإليكم فكرة أشار النقاد إليها بل وضعوا أيديهم في عينها كما يقال، لأكثر من مرة ومنذ تسعينيات القرن الفائت حتى الآن، ورغم ذلك لم تزل مستمرة وكأنها من نوع “استمرأ الخطأ فصار عادة”!.
الفكرة تقول: شغل المخرج الفعلي والفعّال أيا يكن “مسرحياً- سينمائياً- تلفزيونياً-” هو شغله على الممثل، هنا تتمثل مهاراته الأكثر صعوبة والأكثر خصوصية، وفي هذه النقطة بالذات أي الاشتغال على الممثل تظهر قدرات المخرج، التي تظهر  بالضرورة بالأداء، أداء الممثل، فهو الحامل الأول للرسالة في العمل الدرامي الفني، وإن لم يصل ما يريد الكاتب قوله من خلاله – لغة التعبير الجسدي- وعلى لسانه، فكل ما كتبه وجاء غيره ليظهره كعمل فني، يذهب هباء ويمرّ دون أن يترك ذكرى، لذا يوجد فروق كبيرة بين ممثل وآخر، والفرق يكمن في شغل المخرج على أدائه– أي الممثل-.
ما يبقى من أعماله – أي المخرج-مهمٌ أيضا، لكن هناك من يقوم به وينفذه بحرفيته هو لا المخرج، كالمصور الذي هو من يقوم بعملية التصوير، وهو المسؤول عن كون تصوير المشهد ناجحا أو فاشلا، كذا مهندس الصوت وأشغال الإضاءة.
ويحكى عن الفنان العظيم “شارلي شابلن” الذي تصدى لإخراج أفلامه أيضا وهو يمثل فيها، أنه كان يقضي وقتا طويلا مع الممثلين لضبط الأداء وطبيعته وكيف يكون أكثر ملاءمة للفكرة وفي أي حال، هذه الأوقات كانت تمتد لعامين أحيانا، فالحكاية ليست مزحة، هذا عمل سيراه الملايين، وإما أن يسحرهم ويصبح خالدا في ذاكرتهم الجمعية، أو يسقط من حساباتهم ومن أعينهم مرة واحدة وإلى الأبد.
إلا أن هذه الحقيقة تبدو غائبة تماما عن بعض مخرجينا المحليين بأنواع الفنون التي يشتغلون فيها – مسرح، سينما، دراما تلفزيونية-، ومن هذه النقطة بالذات اعتقد أنه يجب أن نبدأ إذا أردنا إعادة نهضة الدراما عموما والتلفزيونية منها خصوصا، حيث صار لأي كان أن يجرب عضلاته فيها الآن!، وهذا حديث متصل منفصل بالسياق- خصوصا بعد أن صار الإخراج أيضا مهنة من لا مهنة له، كما الشعر والأدب عموما-، فمن ينظر إلى الساحة المحلية ويقرأ أسماء البعض من المخرجين -خصوصا في السنوات السبع العجاف المنصرمة-الذين بفضل قلة درايتهم تحطم ما تحطم من برج الدراما بأنواعها، التلفزيونية منها خصوصا، يدرك أنهم من أهم أسباب مشكلة الدراما المحلية الحالية، فهم فعليا من كانوا يصنعونها!
المصيبة أنك تشاهد مشاهد كاملة في مختلف أعمالنا الدرامية بأنواعها أيضا، يظهر فيها الممثل وكأنه يستحي من أدائه، أو لا يعلم ما يفعل، أو لا يوجد من يدّله ويضبط أداءه حسب سير الأحداث، هذا يحدث أيضا في أفلامنا السينمائية أو مسرحنا أو درامانا التلفزيونية، هناك نجوم طبعا يخترقون هذا الحديث بخبرتهم العالية، لكن لا يعيبهم أبدا أن يكون المخرج هو من قال له: أريدك هنا أن تفعل هذا، بالمقابل يوجد مخرجون يسمحون للممثل أن يكتب دوره كما يشاء، هذا حدث وليس من نسج الخيال، أحد المخرجين المحليين كان يترك للممثل حرية أن يكتب مشاهده كما يحب ويشتهي، خصوصا أنه لا سيناريو فعلياً بين يديه ولا حوارات منسوجة بالبراعة المطلوبة، وما بين يديه عند ذهابه للتصوير هو فكرة أعجبته، فيبدأ بالعمل عليها أثناء التصوير وحسب المستجدات يسير العمل “وعلى الله”، وهذا حصل في السينما كما حصل في الدراما التلفزيونية، على يد المخرج ذاته!!.
أما عن قلة الدراية في التعامل مع الممثل، فنورد المثال التالي، الذي جاء في العمل الدرامي  “قناديل العشاق”–من العروض الدرامية الرمضانية لهذا العام-، للكاتب خلدون قتلان  والمخرج سيف الدين سبيعي وإنتاج شركة سما الفن- رأى الجمهور مشهد النزال بالأيدي “المكاسرة” الذي دار بين بطلي العمل خالد القيش ونجم الموسم الدرامي الفائت محمود نصر ملامح الممثلين الجالسين لأجل هذا الصراع باردة، هادئة، كأنهما عاشقان يتبادلان نظرات الود، القبضات تعلو وتنخفض بإيقاع بطيء وممل، يعلو صياح الحضور وينخفض على إيقاعها تلك القبضات المتعانقة، والممثلان في عالم آخر، مالهما وملامح النزال والصراع وانفعالاته؟ من سيسألهما عن هذا؟ لا ملامح وجه متبدلة حسب مقتضيات المشهد، ولا انفعالات تنتجها المنافسة أيا تكن، فما بالنا بنزال بطلي العمل، إنهما “كول” لا يكترثان لطبيعة الصراع القائمة في طبيعتها على الندية والعدائية حيث يستنفر كل مخلوق طاقاته كلها في صراع الوجود هذا!.
على المخرج أن يكون محيطاً بالتمثيل والسيناريو والحوار والإخراج، لأنه سيتعامل مباشرة مع كل هذه العناصر، وهو من سيترجم تلك اللغة الأدبية إلى لغة بصرية وفق إبداعه وفهمه العميق لطبيعة السيناريو، وهو أيضا من سيديرها فلو لم يكن المخرج على قدرة عالية ومعرفة كاملة بهذه العناصر وكيفية ربطها مع بعضها البعض، لن يكون هناك عمل درامي عالي الجودة يستحق المتابعة!.

تمّام علي بركات