الحقّ العام الثقافيّ!
من المعلوم، في مجريات الوقائع الحياتيّة، حين ارتكاب فعلٍ آثم بحقّ إنسان، ووصول الأمر إلى القضاء، أن يكون للحقّ العام حكم خاصّ به؛ إضافة إلى الحقّ الشخصيّ للمدّعي، ويبقى نافذاً، يلاحق الفاعل (أو الفاعلين)، حتّى لو أَسقط صاحبُ الحقّ حقّه؛ فقد أسيئ إلى كينونة الإنسان، وسيرورة الحياة الطبيعيّة الكريمة، التي تقتضي ألّا يعتدي أحد على أحد!
وفي الواقع الأدبيّ، والثقافيّ عامّة، ثمّة أفعال قد تصل إلى حدّ الجرم أو الإثم، وقد لا تكون موجّهة إلى أحد بعينه، ولا تعني شخصاً بذاته؛ لكنّها في إساءتها تصيب عديدين، أو تشوّش على آخرين، مجتمعين في نادٍ أو منتدى أو مركز، حضروا للاستمتاع والفائدة مشاركين أو متلقّين؛ وهذه الأفعال، من ثمّ، تؤذي الحياة الثقافيّة العامّة، التي جوهرها التقويم المعنويّ (والمادّيّ)، والألق والارتقاء والإشعاع، والإيجابيّة في التعاطي مع القضايا المختلفة؛ أو المحاولة المتّصلة لاستمرار النشاط والحيويّة في السبل إلى هذا كلّه. وقد تأتي الإساءة على شكل تشويش مقصود، أو مشاكسة نابعة من طبيعة، أو حالة نفسيّة أو اجتماعيّة، أو رغبة بالظهور أو لفت الانتباه، حتّى في مظهر سلبيّ؛ ويتبدّى ذلك في كثرة الأسئلة، والمقاطعة والتعليق، والحديث الجانبيّ، والدخول والخروج، وإظهار علامات الامتعاض والنفور، والاشمئزاز والسخرية؛ بالصوت أو الحركة أو كليهما؛ فمن يأخذ بحقّ الحاضرين الآخرين، إذا ما سكت عنه رئيس الجلسة، أو مدير اللقاء، وأغلب الحاضرين؟!
ومن الممكن أن يُتجاوز ذلك إلى أشكال أخرى، قد تبتعد الأدوات عن متناوله، والدلالات عن التهمة، والشبهات عن الإدانة؛ كتقديم نصٍّ رديء، وإلقاءٍ مستفزّ، وإطلاق الحِكَم والمواعظ، والأحكام المطلقة، والتقويمات الباتّة، والإشادة بالنفس، والتطويل المنهِك، والاسترسال المجّانيّ؛ كما يمكن أن يتحوّل الأمر إلى تسلّط في القول والسلوك والنبرة، أو الإعلان عن سلعة ومصلحة، حتّى في (السوق) الثقافيّة!
أمّا ما يُستكثر، ويُستسهل، من حضور وقول وظهور على المنابر،وفي المراكز والمنافذ،والنوافذ والمعابر، وفي مختلف الأوقات والظروف؛ بالعلاقات، والمسؤوليّات، والتوسّلات والتطفّلات؛ فهي أشكال أخرى من التعكير والتشويه، والسلوك الضاجّ، والتشكيل الهلاميّ؛ الذي يُغطَّى، ويُسوَّق إعلاميّاً، على الشبكات الأرضيّة والافتراضيّة؛وأكرِمْني؛ لأستضيفك، وامتدحني لأمتدحك، ومن لا يمدحنا لا يفهم، ولا يعلم، ولا يحترِم!
لم أكن يوماً مع تقييد ثقافيّ، ولا مع فرض أسلوب أو شكل أو علاقة أو نوع أو جنس، أو سلطة أدبيّة أو نقديّة.. وكنت أقول دائماً، وما أزال، إنّ فوائد الانشغال بالثقافة لا تنتهي، ولا تُحدّ.
لكنّ المظاهر المتفشّية للحالة المذكورة؛ على الرغم ممّا تمرّ به البلاد، تقتضي إشارات وتدخّلات، وحوارات جدّيّة، وإجراءات مختلفة؛ فهي اعتداء على حقّ عام ثقافيّ، وتوحي بأنّ الثقافة هي على هذه الشاكلة؛ ليس إلّا، وهي تأخذ بالناس مآخذ أخرى، وتُشيع مظاهر مراوغة، وأفكاراً مغلوطة. وكما أنّ هناك تلويثاً للمكان العام، وتشويهاً للمنظر العام، فهناك أيضاً تشويه للذائقة الأدبيّة والفنّيّة، وافتئات على الحال الثقافيّة؛ كما في تعويم الكتابة الرديئة على أنّها الأدب، والسلوك النافر والمظهر المنفّر، ممثّلَين للفنّان، وتسويق الألحان الناشزة على أنّها الموسيقا الخالدة.
الأمر يحتاج إلى عملة جيّدة، تطرد العملة الرديئة، ومتداوِلين حضاريّين أصحابِ رؤى ومبادرات، وبيئة تقدّر هؤلاء، وتساعدهم، ومسؤولين متفّهمين منفتحين.. ولا شكّ في أنّتوافر هذه العناصر ليس سهلاً، ولا يسيراً، مع كثرة المروّجين والمدّعين، والعناصر المسهمة في ما يجري، والميسِّرة له، والمنتشية ربّما؛ أو الساكتة، واللامبالية، والمنبتّة، والمنسحبة من الميادين هذه، التي لا تهدأ فيها الحركة، ولا تتوقّف فيها الأنشطة.
ولسنا بلا دراية بالتأثير الجدليّ بين الحال العامّة السائدة الضاغطة غير الطبيعيّة، والأحوال في الميادين الأخرى؛ ومنها الحال الثقافيّة هذه. لكنّ هذا لا يسوّغ السكوت، ولا يعفينا من أن نقول ما نراه؛ من دون أن يعني بالضرورة أنّه القول الفصل، ولا قول سواه؛ لكنّه على الأقلّ، يشير إلى ما يجب السؤال عنه وفيه، والتحرّك حياله، وإثارته قضيّةً مهمّةً تستوجب الاهتمام؛ وحقّاً عامّاً، لا يمكن التفريط به، أو التساهل في صونه والدفاع عنه.
إنّ من واجبنا جميعاً أفراداً ومسؤولين، تَمَثُّلَ الحقّ العام الثقافيّ، وتحسّسه، والانتصار له؛ لكي ننتصر معه، وتنتصر معه وبه الحقوق العامّة الأخرى في الميادين الأخرى كافّة..
غسّان كامل ونّوس