د.خيري السلكاوي الشاعر الذي رفع حلمه فوق أجنحة الهوى
حينما يكون المعنى عابراً والسؤال ثابتاً كما يقول بارت كيف لنا العبور فوق أجنحة الهوى..؟ كيف يكون المعنى عابراً بالرغم من جراح القلب؟ أو كيف يكون السؤال ثابتاً مع نزف الهوى؟.
قبل البَدْء بعملية التأويل وتوليد المعاني وملء الفراغات التي تقترحها علينا صورة الغلاف باعتبارها دالاً بصرياً، ومن شأنها أن تضيف شيئا إلى النص، فالغلاف هو مِسْبَار القلب وليس دالاً ميتاً، داخله جناح أو مجموعة أجنحة تنشغل بالتمتمات والهلوسات وحرائق الهوى، الغلاف هو النظرة الأولى……”.
في هذا الإطار، ظهر ديوان: “فوق أجنحة الهوى”، وزين الغلاف بلوحة تشكيلية للفنان “محمد عاطف الجندي” تقاسمها اللون البنفسجي بتدرجاته واللون اللازوردي الفاتح ويتناثر البني الفاتح.. وكأنَّ الشاعر تنبه لما ينبغي فابتعد عن المباشرة، والبوح، إلى لغة التشكيل، والإشارة، والترميز، وحين ننظر في التشكيل، تظهر لنا قيثارة البوح وصورة شهرزاد ترمينا بالسؤال: كيف وجدت لها مكاناً فوق أجنحة الهوى..؟ لذا لابد من طرح فرضية ما ولنقل مع دي سوسور “وجهة النظر تخلق الموضوع”.
الإهداء:
ينهض إهداء الشاعر السلكاوي على بُنى علائقية تتصل بالأسرة ويتحول إلى رسالة مهداة إلى كل شخص يقارب هذه النصوص الشعرية، ويتجلى بوصفه عتبة نصية تعيننا على ولوج بوابة هذا الديوان.
قضيّة الهوى
لئن كان واضحاً أن شعر السلكاوي مُتفرّد، وكثيف، تعدّدت مناهلُه، فتوغلت في مختلف النصوص، وتعمّقت دلالتها، وجب أن يعرف أنه الشاعر الذي أثار الجدل حول قضيّة الهوى التي قد تكون مفتاحاَ لفهم أسلوبه “فوق أجنحة الهوى”. فلا يُنكِر أحد عليه ذلك الحضور القوي المؤثر في مهرجان الإسكندرية الدولي للشعر العربي، وبتأبّطه غرام العاشق الساعي إلى دخول المملكة الشعرية من أوسع أبوابها. والذات الشهرزادية هي ملكة تكونت من اختزان الهوى والهيام والحب والجمال على شطرين في إبداع الشاعر السلكاوي الصدر والعجز اللذان يحرصان على الامتداد الأفقي والعمودي في الولادة الشعرية، والملكة التي هي حصيلة النصوص المختزنة والتي ولدت من رحم التراث، وفي بحره برعاية الانتماء والهوية.. فجاد فيها، وتحقَّقت له رؤىً دافئة الظلّ، بعيدة الأثر، وفي هذا يقول: ص-42
ما أجملَ الحُبُّ الذي في مهده
قد فاق عشق أكابرَ المَلِكات
ألْفا من الليلات قد حفِظا الهوى
في الطهر حِفْظَ الصومِ والصلواتِ
كل متابع لنصوص الشاعر السلكاوي يدرك ويتلمس شخصية النص المبني على رؤية شعرية ووجدانية، وديوان “فوق أجنحة الهوى” ليس إلا وليد هذه الملكة، نظراً إلى أن الشاعر ابتغى أن يجعل من الهوى موضوعَ بحثٍ وتأمُّلٍ، يُعمِل فيه أدواتِ عارفٍ صقلتها التجربةُ والثقافة من جهةٍ، وحساسية الذات من جهةٍ ثانية. أما الغاية فهي إخراجُ هذا الحب من عُزلته.. ومسالك الهوى كثيرة، فما السبيل الذي سلَكه “السلكاوي” لبلوغ هذا الهوى؟. فعطر الهوى وعبير الهوى ونزف الهوى ودرب الهوى، هي مسالك الإبداع الشعري عنده لا ينفصل واحدهما عن الآخر، فـ “الجزء لا قيمةَ له إلا في سياقِ الكُلِّ”.
ألا تتوفر في عنونة “فوق أجنحة الهوى” شِعريّةٌ وجَمال، وسهولة الفهم، وبساطة المعنى وجمالية الوَقع..؟.
مما لا شك فيه، أن مسافات شاسعة في عالم الشعور متاحة أمام القدرة التكوينية التي أودعها الله في الإنسان للتحليق في فضاءاتها، سواء عن طريق الحدس.. أو عن طريق الإلهام، نفهم من ذلك أن الدلالة لا تأتي إلا مضافة إلى شيء وتثبت صحية مقولة بيرس: “لا نملك على التمييز بلا علامات”.
وإذا كانت العلامة من منظور سيمياء التواصل، لا تخرج عن كونها وسيطاً تواصلياً، يستخدم بغرض التبليغ والتأثير بالغير، لابد أن يذكر، أهم عنصر للتواصل هو اللغة، ومن اجل تحقيق التواصل يجب أن يَتوقّعَ المُتلقّي مضافًا إليه يتلاءم وشبه الجملة الظرفية. فهو يتوقّع بعد كلمةِ “أجنحة” وجودَ كلمةِ ما يتناسب مع “الهوى”..
التضمين البياني.. والقفل الأول
ويُصبحُ عند شاعرنا انزياحٌ إضافيٌّ شِعريٌّ خالصٌ، والوظيفةُ الرّئيسةُ للانزياحِ ماثلةٌ فيما يُحْدِثُهُ مِن مفاجأةٍ، تُؤدّي بالمُتلقّي إلى الغِبطةِ والإمتاعِ، والإحساسِ بالأشياءِ إحساسًا مُتجدِّدًا.. ويشعر أنه ارتفع بقوة التوحيد والتضمين البياني من خلال قول الله تعالى: “وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى” النجم: 3-4 ويثبت لديه أن ثمّة لا فرق بين التضمين البياني والتضمين النحوي كما أثبت أحد الباحثين: (التضمين البياني هو عين النحوي).
هل لامس الشاعر عتبات التشكيل الرؤيوي المتوهج من خلال الانزياح والتضمين النحوي.؟ يقول ابن رشيق «الشعر قفل أوله مفتاحه»(1) أما في عنونة “السلكاوي” فإن استهـلال العنوان هو القفل الأول الذي يمنع فتحه، ويصر على إغلاقه.
الأمر المُعزّز لهذا الهوى ماثِل في خلفية السياقات المُتشابكة الغائبة الحاضرة في العنوان، وأقصد الحب العُذري عند العرب.. هل تولد لغة الهوى من الغياب..؟ هل رعت شهرزاد هذا الغياب؟.
“فوق أجنحة الهوى”، فوق مضاف ومضاف إليه يستفاد منه التعريف والتخصيص، لكن لا صلة بينهما على مستوى اللغة، فما علاقة الهوى بالأجنحة؟ العلاقة بينهما بعيدة إلا على سبيل الانزياح اللغوي كخاصية من خصائص اللغة الشعرية والتي منها تستمد القصيدة الأم التي حملت عنوان “فوق أجنحة الهوى” جمالها وأهميتها، وكانت أهم عتبات الديوان، وساهمت بشكل أو بآخر في إعادة تكوين النص، وخلقه من جديد، هل هذه اللغة التي أرادها أن تكون الجرجاني بقوله: “أجود الكلام شدّةُ إتلافٍ في شِدّةِ اختلافٍ”.
هنا يمكن التأكيد لمكنونات الإنسان/ السلكاوي وأبعاد تفكيره، بأنها طاقة عابرة للحدود، إذاً لا يجوز لنا أن نتجاوز الفعل الإبداعي ونتحدث عن نصوص مؤطرة قبل أن نعترف أن لكل عمل أدبي بذرة داخلية تشكله وفق طبيعتها، وأن “الهوى” كان عنصراً مُهيمناً ومؤثراً في الوظيفة الشعرية فيحقق فيما بينه بالصهر، وتحويل القصائد الأخرى إلى أفواه تتكلم بلسان قوة القصيدة المهيمنة .. يقول ص-13
الله قربها وقربني لها
فتحققت رؤيا هيام صادق
سبحانه وهب البهاء جمالها
فتوحدا بجوانحي وبخافقي
ويهرب “السلكاوي” من ضوضاء الحياة المادية وزيفها، لتتمتع رسالته الشعرية بصفة الاعتدال، وهي سمة تنبع من توازن شخصيته تظهر تلك السمة جلية لأنه يؤمن بمنطق الحب/ الحياة ويحتفظ بـ عطر الهوى ككبسولة دواء تحت لسانه وقد قال في ذلك: ص- 22
فوّاحُ عطرُكَ يا هوى فوَّاحُ
كم أخمدتْ نارَ الغرام جراحُ
الحب كنزٌ في فؤادٍ مغلقٍ
ولدى الحبيب السّرُ والمفتاحُ
ففي الوقت الذي تنامى الحلم الشعري عند الشاعر لدرجة الدخول في حسِّيَّة المشهد الجمالي الليلي، فجاء بتمتماته ليحرك أجنحة القلوب الهائمة، ويدخل إلى حقيقة طبيعته اللامتناهية في هيامها ويعمل على توسيع دائرة الرؤيا، ثم يتحول من الليل /القلم/ الحبر/السواد/ إلى بياض الورق/ شمس الكون/ النهار/ الوضوح ويقول فيه:ص-28
ما قلت إلا تمتمات خطها
قلمي بليلى كي يجيء نهاري
لكن علمت اليوم أن دفاترا
ستعيد لي بعد العمى إبصاري
وهنا يتبدّى ملمحانِ اثنان: ضِمني وصريح، أما الضِمني فيَشِي باحتمال تأثر الشاعر السلكاوي بالشعراء العرب العُذريين وبالبيان الكريم.
قد نقول مع أمبرتو إيكو “التأويل ليس فعلا مطلقا، بل هو رسم لخارطة تتحكم فيها الفرضيات الخاصة بالقراءة، هي فرضيات تسقط، انطلاقا من معطيات النص، مسيرات تأويلية تطمئن إليها الذات المتلقية”(2)
أنْصَتَ الشاعر خيري السلكاوي إلى تمتمات الغرام وساجلها بامتلاءٍ فكريٍّ وشِعريّ معًا؛ أنصت إلى ملكة المفردات الحاكمة لمنظومة الأشعار وممّا تكتنزه الذاكرة الشهرازدية من رموز ودلالات، باحثًا في كل واحدةٍ منها عن سرديّةِ خطابِها الخاصِّ، وعن إيقاعها الدّلاليِّ الداخليِّ الباني لأسطورتِها الجديدةِ، وعن «حقيقة» لها أخرى مُمكنة لا تَعْتَوِرُها أحوالُ التهافت والتسطّح والاضطراب وأُحادية المعنى، وهي أحوالٌ رأى أنها فوق أجنحة الهوى، وجعلها تتحرّك – بعبير الحب- واستبدل الضحكات بالعبرات في خانة المألوفِ المُنتظَرِ الذي يجعل الفراق المرّ مُعَدًّا سلفًا للشعراء العشاق فحسب وليس للتلاقي.
ولعلّ افتتانَ “السلكاوي” بالتحليق والدوران “حول الثريّا” هو ما رغّبه في استنشاق عطر الهوى الفوّاح، تحدوه فيها “شمس أحلام الصبا”، وتَوقٌ إلى بلوغ اللامعقول للوعة والهيام ومُخالفة لِما يبدو منها معقولًا في الواقع، وكأنه لا يوجد في المعقولية غير فكرة المعقولية ذاتها، وكأن لشعاع حبه رغبةً في تحرير شعره وهز عروشِ كثيرٍ من العاصيات، وفتح آفاقٍ جديدة للسَّكن “بنفس المكان”.
إذاً يُقدّم الشاعر عُصارةً من فلسفةٍ، وفكر، وأدبٍ يصعُب إرجاعُها إلى فطرتها الأولى. وهذا أمرٌ طبيعيٌ مادام البناء ابتكاراً لدلالاتٍ بين النصوص المختلفة في كُلِّ مُوَحدٍ مُتجانِس.
أُقِرُّ بأني وأنا أغوص في مجاهل النصوص لفك لغز حزنها والإبحار في بحورها، التي لن ترمي جواهرها ودررها على الشواطئ مهما ظهرت للمتفرج، كمن يمسك بالأمواج بين المد والجزر، ويبدو هائماً في لحظته الشعرية منتشياً باكتشاف دفاتر الأسرار حيث تدخر الرؤية ويبدأ حواره الشعري بين الروح والأشباح، وبين السمو والاتحاد بالمطلق، فيطلق أجنحته كلمات ويجعل من أحزانه مرآة ذاته، وإن كان هناك ما يدعو إلى ذلك الحزن ومن قلب متخم بالاغتراب وروح تعشق الشموخ والمجد، تعلنه الأوجاع عاشقاً، لكنه يمنحنا هذا الشعور الهائل بأن الحلم كالحب قريب جداً ويجعله يبدأ حيث ينتهي فيقول في لحظات “الفراق المرّ”: ص- 49
يا ليت شعري متى يا قلب طلتها
تروي قفار الهوى في ليل أحزاني
قد أرضعتني شموخ المجد حانية
أمي وقد حصنت بالمجد شطآني
الشاعر السلكاوي، بزغت أجنحته /قصيدته عبر الثنائيات لضدية واللفظية مثل: (رضابها وقوامها) وإن هذه الثنائية تمثل رؤيا الشاعر للوجود باعتباره مكوناً من ثنائيات ضدية ومفارقات، ونلاحظ أن الشاعر يوظف عنوان مجموعته فبدأ يمارس لعبة الدوران والطيران بقارئه في عالم الانزياح منذ بداية النص، من العنوان، باعتباره مفتاح النص أو البوابة التي ينطلق منها إلى فضاءات متعددة، من خلاله يطرح مجموعة من التساؤلات التي ستشحذ فيه قوة التخييل، ليأخذ مكانه على شراع أجنحة الكلمة الشعرية، وليقتسم معه دفقاته الشعورية، وأيضاً ليأخذ مكانه ويتوحد النبض “فوق” أجنحة الهوى، فما لم يحدث الاتحاد الصوفي بين المبدع والقارئ تكون الكتابة أصلاً كطواحين الهواء لا قيمة فنية لها، فما لم يقع حلول بعضهما في مشاعر بعض، يكون العمل الإبداعي، مسألة ضياع لدم القلب/للوقت/ وهدر للطاقة المبدعة التي توّلد استمرار نبض القراءة من خلال الحب.\وننتهي إلى ما انتهى إليه الدكتور بهاء حسب الله أستاذ الأدب العربي –بكلية الآداب، “إنها دعوة إلى دوران حركة الحياة نحو الخلف من جديد، إلى الزمن الجميل،لا لشيء سوى لأن ديوانه مثل لي نقلة نوعية في تصوري لفن صناعة الشعر المعاصر على مستوى الموضوع ومستوى الفن ذاته وبنيته”ص-181
ونصل معاً إلى “درب الهوى” أسمعه يقول ص-177
هذا سؤالك قد أجابه قبليا
(قيس) و(عنترة)فجد بلقائيا
لا تسأليني عن كؤوسٍ فرقت
وتجرعي نهر الوصال الشافيا
خلاصة مفادها أن جمال الذات العاشقة المسافرة “فوق أجنحة الهوى” لا تكمن في جزء من أجزائها أو بعض صورها وإنما في علاقة بعضها ببعضها الآخر.
فالشاعر دائم الإقامة في القصيدة وكلماته لا تتحول إلى دخان، لكن ممكن أن تكون عقد ياسمين أو أيقونة حب من عنبر العشاق، فهو السهل الممتنع، وسيجد المتلقي يتأمل ذاته في الأصداف والأمداء والأحلام المبثوثة كالظلّ فوق أجنحة الهوى.
المراجع والهوامش:
* حاشية الخضري علي ابن عقيل علي الفية ابن مالك، الناشر، دار الفكر، الطبعة الأولى، 1424 هـ، 2003م:1/14.
(1) ابن رشيق أبو علي الحسن، العمدة في محاسن الشعر وأدبه، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، نشر المكتبة التجارية، القاهرة، الجزء الأول، الطبعة الأولى، 1934، ص 195.
(2) – امبرتو إيكو “التأويل بين السيميائيات والتفكيكية، ترجمة وتقديم د. سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء الطبعة الاولى سنة 2000 الصفحة11.
أحلام غانم