ثقافة

أحـــلام غـانــم تواعــد الحلــــم في رتــاج الشــــمس

مع أن الكتابة حالة تتطلب الجرأة –وهذا ما تنضح به كتاباتها- إلا أنها كما كثير من الأديبات العربيات وقّعت الشاعرة أحلام غانم كتاباتها الأولى تحت اسم “جلنار البحر”، وهنا يحضر السؤال عن سبب عدم ذكرها لاسمها الصريح؟. هل الخوف من المحيط؟ أم قلة ثقة بما تكتب أم أن هناك أسباباً أخرى فأجابت:
لم يكن التخفي خلف الاسم المستعار ظاهرة ضعف أو قلة ثقة أبداً، بل مواجهة الخوف للخوف على هذه الذاكرة التي ترى الأنوثة في خانة الضحية والتي تواجه كل ذلك خوفاً على بكارة الأشياء في الروح.. كنت أشعر فعلاً أنني زهرة الجلنار اليتيمة الغريبة المكسورة الخاطر على شاطئ الشعر، ووجدتُ التخفي نجاة من قول الحقيقة وطريقاً للهروب من غضب إله البحر، والمواقف الصعبة التي كرهت أحلام روحي أن تدخل فيها فيكلفها ذلك شجاعة لا تستطيع أن تدفع ثمنها، فكانت جلنار البحر المعنية بأحلام في فهم الذات وتأمل صلاتها بالعالم، لذلك -تتابع أحلام- لم تكن جلنار سوى ساعي بريد يحمل رسائل الحب والوطن وتصميم المقاومة حتى النصر، حيث لا تَغْفَل جلنار عن تلك الذات الأنثى وخطابها المفتوح إلى العالم: “نحن نصنع الأسماء وليست الأسماء من تصنعنا”.. كللتني الحياة بقصائد جلنار البحر، ورقص على رماد الجسد، ومن الماء أنثى، الوسط البعيد، تيم البنفسج، وينكسرُ الغياب..

رتاج الشمس وأفق الحلم
إن التجربة الشعرية لشاعرتنا مستقاة من الحياة ففي مقدمتها لديوانها الجديد -الذي نحن بصدد الحديث الآن- ترى أن كل شخص في هذه الحياة يرى الدنيا من منظوره الخاص الذي صنعه لنفسه، فيُكْبِر ما يتناسب مع أفكاره ويهمش أو يحذف ما لا يتناسب مع هذه الأفكار، والموضوعية التي ندّعيها كثيراً ما تكون خرافة، فحتى لو اعتقد الإنسان أنه موضوعي فلابد أن تحتوي نظرته على جانب كبير من الذاتية.
وتتساءل: ألم يشعل قديماً ديوجين مصباحه في وضح النهار كي يبدد العتمة ويمد الناس بالبصيرة الغائبة.. هل من سقراط عربي يعلمنا الرؤية كي نرى؟ وهل من ديوجين عربي  يبدد العتمة ويمدنا بالبصيرة الغائبة؟ أم أن البصيرة لا تبدد عتمتنا إلا إذا تعلمنا كيف نرى جذوة نصفها الآخر؟.
وفي نص آخر تقول: تعلمت من جلنار البحر أن أحفظ كل ثمين وغال في أعماقي، وأن أطرد منها كل غث ورخيص، فالبحر يحفظ بأقصى قاعه الدرر النفيسة، ويطرد إلى شاطئه كل الأشياء القبيحة. تعلمت من طيور العشق قيمة الكتمان فهو الذي لا يفشي أسراره إلا لمن يصونها ويعرف قيمتها، ويبذل قصارى جهده في الغوص عن مفاتيح الحقيقة الشعرية في هوى الرحمن:
طيور العشق تحملني
على غصن من الريحان
كنبع هائم يجري
ويسبح في هوى الرحمن
يهدهد فيّ إيماني
ويحرق فيّ أشجاني
ويحيّ فيّ ما قد كان.
في بعض قصائدها تسعى الشاعرة إلى لغةٍ شفافة تعتمد على الوضوح والواقعيَّة؛ فهي لغة تكاد تكون خاصة بها، لغة تنطلق من الواقع ومن وعيها بأدواتها الفنيَّة، ففي قصيدتها “بوح البتول” تقول بلغة واضحة مؤثرة:
عنقاء راودها بمغزله الجوى
وسقى مُحَيّاها الصِّبا المتجددُ
فتوضأ الجيشُ الأبيُّ ببحرها
والنَّحل في شهبائها يتهجَّدُ
نورٌ على بسماتِ جِلَّقَ لم يزل
للعاشقينَ.. وجنَّة تتزودُ
فهواؤها قمحُ اليقينِ وماؤها
سرُّ الشهيد وتربُها به إثْمَدُ
لقد استطاعت الشاعرة بحرفة متميزة أن تحدث تنوعاً جاذباً كيفاً وكماً، فمع ثراء أسلوبها، وتنوع قوالبه وأغراضه واتجاهاته، هناك أيضا تنوع في عدد الأبيات ما بين بيت واحد إلى مقطوعات شعرية إلى قصائد قصيرة وطويلة. وفي إشارة إلى الشهداء الذين افتدوا الأرض بأرواحهم ليخلّدوا وطنهم في سفر المجد، لكنهم باقون   أحياء في وجداننا ينثرون على أرواحنا ياسمين الحياة وينبتوا في قلوبنا نسغ الأمل بغد رسموا ملامحه بدمائهم، وكانوا القنديل الذي أنار ظلمة أيامنا.. -وتخص شهداء مدينتها طرطوس- فنقرأ في قصيدتها “فاتحة الغمام”:
وطن وقد فاق المجرة أنجما
ما عاد وقفا للقريض مفسَّرا
يادرةً وطنُ الغزالة ضمها
فأضاءتِ الدنيا سناها الأبحُرا
افتَحْ جفونَ الأرضِ وانظر أنجماً
في مقلتي “طرطوس” شعباً حاضرا
وقد تنوعت قصائد الديوان من حيث الغرض، فنجد العاطفي، والوطني، والسياسي، والاجتماعي، وبعض القصائد في الفخر أحيانًا، ومع ذلك لا يستطيع القارئ أن يؤطر كل قصيدة ضمن غرض واحد، فقد تتناسق الأغراض في قصيدة واحدة بانسيابية مدهشة. وهاهي تخاطب أمهات الشهداء اللواتي جسدن بصبرهن على الفقد    أمثولة للعطاء الذي تنسجنه راية من إرادة وصمود يعتز السوريون بها، أم الشهيد التي لفحت حصرمها ريح البغاء تحولت حبة عنب تعطي دناً من خمر عتيق، تختصر أبجديات اللغات، وتزين أرواحنا بالبهاء، وترسل من صبرها غمامة من بهاء الحياة تغسل الكون بمائها المعسول بالصبر والأحلام وصيرورة الحياة. من  قصيدتها “قديسة الحبق” نقتطف:
هل فضة الروح أم أرجوحة الشفق
بدت فحيرت الخنساء في الغدقِ
لفِّي بريحانِ هذا القلب أوردتي
وأشرقي.. فوق ما في الشرق من شَرَقي
كأن نجمَ ثريا الروح مَرَّ هنا
لكي يقولَ: هنا قديسةُ الحبَقِ
يا ما كتبنا على أزهارِ أضرحةٍ
يا كمْ بقافيتي منهن من أنق
وفي قصيدتها “زنوبيا رتاج الشرق” تخاطب المرأة السورية ألا توقف أكسير عطائها الرائع.. ولا تقلل من جرعاتها لمن يحتاجها، ولا تبعد غمامتها الجليلة عن روح الوطن.. فهي ملحمة العطاء وينبوع الحنان والحب الصادق، يكفيها فخراً انتماءها لوطن اسمه سورية:
زنوبيا سأعيد فصول نهايتنا نحو بدايتها
تدثري بي أكثر.. كي أكشف كل معانيك
فأنت رتاج الشرق ولبوتُهُ الأبدية
والآن سأهمس في أذنك
عشقُه قد صار لي قضية:
وأنا قلمٌ يهوى أن يبدع وطناً يدعى الإنسانية
ونصرخ معا: نحن كالماء لم نكسر
لا.. لم نهزم.. لا لم نهزم
أما الشعب السوري الذي امتلك مقومات الحلم والإرادة وسر الحياة، فمازال مفعماً بالعطاء ومستعداً لتقديم كل ما يملك في سبيل أن تبقى راية سورية خفاقة في سماء العزة والكرامة الإنسانية. لأن المواطن السوري يدرك معنى الحياة التي تجمعه مع الآخر النقيض له بأفكاره وسلوكه، وحتى نظرته للحياة وأسلوب تعبيره عنها.
في قصيدتها “حبر السوريين” تقول:
كلما ولد نجم على هدب المُتَّقينَ
تقدم نجمٌ يلوي غمامَ اللقاء
كل من ترجل للعلا كان منهم
دربُهم والشهيد
وإلى الله سرُّهم والبقاء
يمورُ المعنى حين يزهرُ طلعهم
والنحلةُ الكلام
ومن قصيدة “بين اللام والنون”
أسائلكم من أنا
ربما ألتقي بالذي نبضه هو نبضي
فنتحد الآن.. ضد الفؤاد..
من أنا.. يا تُرى؟ مَنْ؟
أنا.. أمةٌ للشهيد
ومئذنة للمسيح
وصوتٌ يمزق ثوبَ السكونْ
أنا.. منتهى الغسقُ الشفقُ الريحُ
قلبي الدلالاتُ.. والحبُّ ذاكرتي
من قصيدة “راهبة إلاَّ في الشعر”
راهبةٌ إلا في الشعر
ومن فراشة اليقين
مدَّت على درب الحواكير
حرير غُنجِها
ناطقةٌ عن ورق الزيتون في مهجعنا
وعن رسول التين
باسم الدراويش التي أعلنت الحرب على المحراب والعارفين.
في أحد حواراتها تقول أحلام: القلم شمس الحقيقة الأزليّة في سطوعها، وأخطر من الرصاصة فهو حامل هالة كونية يفوق بقدرته الكامنة الطاقة النووية المعلنة، وسيظل القلم قيثارة الوجد النابضة بقدسية الموقف الوطني النبيل، وعقيدة الجيش العربي السوري ولسان المشاعر السورية المتدفقة في شرايين التاريخ الإنساني، ليبقى الشعر رمزاً قدسياً تجثو عند قدميه عناءات الإنسانية وتستريح في ظله سيرة العاشقين الناجين من نيران الإرهاب والتكفير، مرتكزاً بموقفه على صفاء اليقين وانبلاج سطوعه بصمت غريب من طراز صمت الشهداء في الفردوس.
أحلام غانم.. في كل ما كتبت وما ستكتب هي امرأة من شغف وحنين.. هي سيدة تحمل في روحها شفافية الشعر، وتبحر في مراكب القصيدة ترسم ملامح أكوان غادرتنا في زحمة لهاثنا وركضنا وراء السراب المختبئ خلف غيوم الأمل، تفصّل للوجوه المتغضنة بالتعب وشاحا من مروج خضراء مزينة بألوان قوس قزحية.. تغزل للحياة قصائد ملونة بأزهار الربيع.. إنسانة تحمل في روحها عبق الحياة تهديه للقابعين وراء صخرة اليأس ليتزنروا بانطلاقة جديدة في الحياة التي لا تنتظر أحدا، إنسانة تشبه روحها وذاتها كثيرا.. والشعر كما تراه يحتاج دائما إلى التأمل، إلى عالم هادئ ورومانسي، والابتعاد عن الصخب حتى تظهر الانفعالات الداخلية، ويبوح بها الإنسان على شكل قصيدة محملة بالدفق الوجداني والعاطفي، والصور الشعرية الجميلة المبتكرة والمتجددة هي غزالة المدن والجبال تمتد سفوح الإبداع واسعة أمامها لتنسج من كل لون حكاية، فمرة تكون سيدة للشعر.. ومرة للرواية، وأحيانا تتألق عبر مقالة صحفية، وفي هذه الحكايات كلها هي امرأة من نعناع وحب..
سلوى عباس

(قدمت هذه القراءة في حفل توقيع ديوان “رتاج الشمس” للشاعرة أحلام غانم في المركز الثقافي العربي بدمشق- أبي رمانة)