في ذكرى رحيله.. صلاح الدين محمد كشف أسرار الإبداع في التشكيل السوري
تحولت ذكرى رحيل الناقد والإعلامي صلاح الدين محمد إلى تظاهرة فنية كبيرة هي الأكبر في الفن التشكيلي برأي الفنان والناقد أديب مخزوم، الذي أشرف على هذه التظاهرة بالتعاون مع المركز الثقافي في أبو رمانة واتحاد الفنانين التشكيليين، وقد شارك فيها كبار الفنانين السوريين وعدد كبير من المهتمين والإعلاميين، وتضمنت افتتاح معاون وزير الثقافة علي المبيض لمعرض تحية للناقد والإعلامي صلاح الدين محمد بمشاركة نحو 73 فناناً من رواد الحداثة التشكيلية إلى جيل الشباب، كما كرم عائلته التي حضرت التظاهرة، وقد رافقت المعرض ندوة تكريمية شارك فيها د.علي القيم، الناقد والإعلامي سعد القاسم، الفنان والناقد أديب مخزوم، والأستاذ بسام بارسيك من وزارة السياحة.
وبيَّن معاون وزير الثقافة علي المبيض أن صلاح الدين محمد قامة فنية معروفة متعددة المواهب، حيث كان مهندساً معمارياً بارعاً ورساماً ومصوراً وباحثاً وناقداً من الطراز الرفيع، مؤكداً أنه من واجب وزارة الثقافة تكريم مثل هذه القامات الثقافية التي تنير الثقافة السورية التي يمتد عمرها لعشرة آلاف سنة من خلال زيادة التمسك بها والتأكيد على الهوية الحضارية التي يحاول أعداؤنا تشويهها.
ناقد كبير
وأكد د.علي القيم في مداخلته أن محمد ناقد كبير أثرى الحياة التشكيلية ببرامجه وأفلامه وكتاباته النقدية ومشاركاته في المؤتمرات والمهرجانات لأكثر من خمسين عاماً، مشيراً إلى دوره الكبير في تعريف الناس بقيمة اللوحة الفنية وترسيخ الفن التشكيلي في أذهان الناس، وكان واعياً لرسالة الفن في حياتنا ومدركاً لأهمية هذه الرسالة وأهمية النقد الذي كان له دور كبير في الارتقاء بحياتنا التشكيلية، وكان محمد من أهم رواده إلى جانب إدراكه لأهمية الإعلام والتواصل مع الناس، فقد كان إنساناً معطاءً، قدم أكثر من 100 فيلم وثائقي عن الفن التشكيلي والحضارة السورية، وشارك في أكثر من 100 ندوة ومهرجان ومؤتمر محلي وعالمي، كما أثرى المكتبة بأبحاثه وكتاباته النقدية السامقة عن الشام الجديدة وطريق الحرير ولؤي كيالي وعز الدين شموط.. مبيناً أنه وبفضل كتاباته النقدية أصبحت اللوحات والتماثيل والنصُب صحائف مفتوحة، وهو الذي كشف السرَّ العظيم في كل إبداع فني سوري جميل وجعلنا نحس بجمال اللوحة وأهميتها، وساهم بازدهار وتطور هذا الفن العريق.
واجه القدَر بشجاعة
وبيَّن الناقد سعد القاسم أن ثقافة محمد الواسعة وعلاقاته الكثيرة ساعدته في أن يكون ناقداً مواكباً للحركة التشكيلية السورية، واستطاع بحواراته وسجالاته أن يُغني الحياة التشكيلية، مبيناً أن مقالاته الفنية التشكيلية التي كتبها إن جُمِعَت في كتاب ستشكل إرثاً فنياً مهماً، وهو كناقد رسّخ اسمه في مجال النقد التشكيلي ومن القلائل الذين نجحوا في ذلك، مؤكداً القاسم أن ذلك تحقق لأن محمد كان مثقفاً حقيقياً، كما كان قارئاً وعارفاً بالفن من خلال متابعته الحثيثة للحركة التشكيلية السورية منذ بدايتها، إلى جانب ما كان يمتلكه من أرشيف مهم كان مرجعاً له، انطلاقاً من إيمانه بأن هذا الأرشيف هو المرجع الأساسي للناقد لأن الذاكرة لا تكفي لوحدها، منوهاً القاسم إلى أن محمد في المراحل المتأخرة من حياته تخلى عن النقد الفني وذهب باتجاه البحث وأصول الفنون السورية وتاريخها، وهذا كان حصيلة جولاته في العالم، موضحاً أنه كان محباً للإدهاش بالمعلومة دائماً، فكان يسعى دوماً لتقديم ما لا يعرفه القارئ وما يثير الجدل.. من هنا كان ناقداً محترفاً جعل الناس تقدِّر قيمته حتى ولو لم تفهم بعض نصوصه التي اعتاد ألا يكتبها للعامة، ونوه إلى أن ما نشره وما قدمه على الرغم من أهميته لم يعبِّر عن كل ما في ذهنه، وبقي أقل من طموحه واهتماماته، وظل محمد برأيه حتى آخر يوم في حياته ورغم مرضه الشديد مصرّاً على مواجهة القدر بشجاعة غير استعراضية وبكل هدوء، وطالب القاسم الجهات الرسمية بالتعاون مع أسرته لجمع ما كتبه وإصداره ضمن كتاب يكون خير مُعين للمهتمين في مجال النقد لأنه يشكل إرثاً مهماً.
علامة فارقة
وأشار الأستاذ بسام بارسيك من وزارة السياحة التي عمل فيها محمد لسنوات طويلة والتي أصدر من خلاها مجموعة من الكتب والكتيّبات والتقاويم والبروشورات التي كانت بمثابة لوحات فنية، مشيراً إلى أنه كان يتميز بالدقة في كل ما يقوم بإنجازه من خلال تقديم المعلومة الصحيحة، ويُعد علامة فارقة في عملها، وقد نالت معظم التصاميم التي قدمها جوائز عربية وعالمية، منها جائزة السياحة العالمية لأفضل تصميم بمشاركة نحو 88 دولة، وظل تصميمه حينها يُنشَر لمدة عامين، لتبقى الكتب التي كان يصممها من أفضل الكتب السياحية التي ما زالت مصدر فخر لوزارة السياحة، منوهاً بارسيك إلى أن الوزارة حالياً تعمل على تقديمها بشكل الكتروني، آسفاً لأن مرض محمد منعه من إنجاز كتاب شامل عن سورية، ومؤكداً أن ذكراه ستبقى حاضرة بأعماله في كل بيت سوري.
رائد في النقد التصويبي
وأوضح الفنان والناقد أديب مخزوم أن الفضل يعود لصلاح الدين محمد في نشره لأول مقالة له في الفن التشكيلي، فقد كان قارئاً لما كان يكتبه عبر الصحافة، وحينما توجه من طرطوس إلى دمشق للمشاركة في أحد المعارض قصد محمد وأطلعه على بعض لوحاته، وحين تلمس حسَّ مخزوم النقدي دفعه للكتابة، وهكذا غيَّر محمد مجرى حياة مخزوم حين أتى إليه فناناً وخرج من عنده ناقداً استمر في الكتابة النقدية، تاركاً الرسم لمدة ثلاثين عاماً، مبيناً مخزوم أنه تعلم الكثير من محمد، والأهم أنه تعلم توخّي الدقة في تقديم المعلومة، حيث أنه كان رائداً في النقد التصويبي ونشر مقالات عديدة عن الأخطاء الموجودة في الكتب والمجلات المتخصصة، وفي الوقت ذاته تعلم منه ألا يكون ناقداً تصالحياً يكرس الفوضى واللامبالاة والأخطاء، مشيراً إلى أن دراسة محمد للهندسة المعمارية تركت أثراً كبيراً على أسلوبه النقدي التحليلي، وأنه كان سخياً في اقتناء الكتب والمراجع المهمة بنسخها الأصلية.
قامة فنية
وتناول د.سعد الله آغا القلعة في مداخلة له علاقة الصداقة التي كانت تربطه بصلاح الدين محمد وقد اجتمعا على مقاعد الدراسة سواء في المرحلة الثانوية أو الجامعية وبيَّن أن القاسم المشترك بينهما كان حبهما للفن، مشيراً إلى أن محمد امتلك حساً تحليلياً، وقد رسخت لديه دراسة الهندسة المعمارية الدقة والإتقان في العمل والفكر التركيبي الذي جعله ينجح في عالم النقد بطريقة مختلفة، وهو الذي كان يبحث عن قوننة العناصر الجمالية في الفن السوري، منوهاً إلى أنه كان يمتلك ذاكرة بصرية نادرة وثقافة تشكيلية عالية المستوى، لذلك فإن ما كان يكتبه أثناء عمله في وزارة السياحة في عهد آغا القلعة كوزير كان صحيحاً ولا حاجة لتدقيقه، مؤكداً أن محمد قامة فنية يجدر بنا أن نوصلها لما يليق بها. أما ولدَي الراحل نارين وخليل فقد أكدا في مداخلة لهما أن الحضور الكبير لهذه الندوة الذي أتى لإحياء ذكرى والدهما قد أعاده للحياة مرة ثانية ولو لساعات، وهو الذي كان حاضراً بكلامهم عنه، شاكرين الحضور ومؤكدَين أن والدهما رحل وهو راضٍ فبلده لم يبخل عليه لا بالتكريم ولا بالجوائز.
لم يعتمد النقد السطحي
في حين أكد الفنان محمد غنوم أنه ناقد لم يعتمد النقد السطحي بل دخل في عمق العمل الفني واعتمد منهجاً علمياً، وهذا نادر الحدوث في الحركة النقدية العربية، وقد كان رجل علم وثقافة.. من هنا كانت كتاباته النقدية تقوم على المعرفة العميقة، فلا يتحدث عن العمل الفني بشكل عابر، منوهاً غنوم إلى أن محمد كان فناناً تشكيلياً وإعلامياً أحب الإعلام وعشقه وأنجز أفلاماً وثائقية تُعد علامات فارقة في التاريخ التشكيلي، وسيأتي يوم سيدرك فيه الجميع أهمية ما قدمه في هذا المجال لأنه وثّق الكثير من الفنانين وقدمهم بشكل محترم .
أما الفنان نشأت الزعبي فقد بيَّن أنه كان ناقداً مهماً ورجلاً مثقفاً لا يعوَّض، وكانت لديه القدرة على تفكيك العمل الفني وإعادة بنائه ليتحدث عنه فيما بعد، فكان صادق العبارة وعميقاً، وكان من النوع الذي تنطبق عليه مقولة “الناقد الجيد هو صلة الوصل بين الفنان والمتلقي من خلال قراءته الذاتية للعمل، وهو الذي يعيد إنتاج هذا العمل” وقد كان محمد من هذا النوع، حيث كرّم الجميع بكينونته الإنسانية والحضارية والثقافية.
أمينة عباس