السلطة الرابعة وبدعة المكاتب الصحفية
تتعامل الدول التي تحترم مواطنيها وتعمل لأجلهم بصدق، مع صحافتها وكأنها كتابها المقدّس، صحافتها التي تنقل هموم الناس ووجعهم وأحوالهم، أفراحهم أتراحهم وكل ما يعنيهم، صحافتها التي هي صلة الوصل بينها وبين الناس، أحد أهم ما يعنيها، فهم رعاياها الذين يعطونها شرعيتها ووجودها، إلا أن مقولة “أذن من طين وأذن من عجين” هي ما نراه ونلمسه في سلوك بعض مسؤولينا تجاه صحافتنا المحلية،فهم إما لا تعنيهم هموم الناس الني تقدّمها الصحافة الورقية عموما، -قبل أن يسطو عليها الإعلام المرئي والمسموع وكأن ما جاء فيها من تعبهم لا من تعب الصحفي الذي خاض بالموضوع، وعمل أيام وليال لأجله-، بدليل عدم التحرّك إلى حلها، أو أنهم تخلّوا عن عادة قراءة الجريدة المحلية واكتفى كل واحد منهم حيث هو في موقعه، بما يقدّمه له المكتب الصحفي الخاص بوزارته أو إدارته أو غيرها، وهذا المكتب الصحفي هو من يخاطب استفسارات الصحفيين والجهات المعنية، فتأتي أغلب أخباره وردوده ناشفة جافة نسخة واحدة متكررة بأسماء مختلفة وأسلوب “كليشة” اعتاد أن يرفعها هذا المكتب الصحفي العجيب للمسؤول ولاستفسارات الصحافة المحلية بآن. وهذه البدعة التي تقصي الدور الحقيقي للسلطة الرابعة، لا تقدّم إلا الرمد الذي سيقودنا يوماً ما إلى العمى عن كل ما هو حقيقي، عدا عن كون المسؤول نفسه، يترك لها أن تصدر الصورة عن عمله هنا أو هناك، فيجيء دورها وكأنها توثق أعمال فخامته الملائمة للون بزته وربطة عنقه ونوع عطره، وذلك عندما يقوم بقص شريط مشروع هنا، وزيارة ميدانية هناك، وهكذا، دون أن تشير ولو إلى مثلبة واحدة في عمل هذه المؤسسة أو تلك، وكأن جميع مؤسساتنا لا تعاني من أي مشكلة، وهي في معظمها قد تحولت إلى مؤسسة خاصة بهذا المسؤول وأقاربه وأصدقائه وأحباب القلب جميعا.
في التوصيف العالمي توصف الصحافة في كونها”السلطة الرابعة”، حيث يستخدم المصطلح اليوم في سياق إبراز الدور المؤثر لوسائل الإعلام ليس في تعميم المعرفة والتوعية والتنوير فحسب، بل في تشكيل وتوجيه الرأي العام، وخلق القضايا، وتمثيل الحكومة لدى الشعب، وتمثيل الشعب لدى الحكومة، وتمثيل الأمم أيضا لدى بعضها البعض، وعن طبيعة عملها وأهميته التي لا تقدر حق قدرها في بلادنا –بلاد العالم الثالث عموما- قال عنها أحد أكبر الزعماء العالمين “سلفادور الليندي”: أنها–أي الصحافة- إن كانت تعمل بالطريقة المهنية والحرفية في بلاده، فإن بلاده ليست بحاجة إلى حكومة، فالصحافة تحل هذه المشكلة باعتبارها القادرة على معرفة المشكلة وأساسها وتشخيصها، بمعنى أنها تستطيع أن تكون ضمير الناس والدولة، وصلة الوصل بينهما، إن مارست عملها بالشكل الفعّال المطلوب.
هذا أيضا مفهومها عند المواطن “السلطة الرابعة” كما يسميها، حتى وإن كان يسخر أحيانا بأنه ما من دور فعال للصحافة بما يخص شؤون الناس،لأنها حسب توصيفهم صارت بعيدة عنهم وعن همومهم وما يعنيهم حقا، ويبدو أن معظمها قرر أن يكون لسان حال الحكومات وليس الشعوب، وهكذا بقي اسمها “سلطة رابعة” ولكن مع وقف التنفيذ، فاليوم يستطيع أي صحفي أن يكتب وينتقد أداء السلطة التنفيذية مثلا، ولكن هل من مجيب؟ ما يحدث هو العكس، ما يحدث هو العمل على إخراس هذا الصوت أو شرائه بأبخس الأثمان، وفي أفضل الأحوال مقابلة مع ما يوجه من انتقادات لعمل تلك الوزارة أو تلك المديرية بـ”التطنيش” وهكذا صارت الصحافة بعيدة عن لعب دورها الأهم في كونها ضمير ووجدان الشعب، الذي كان يؤمن في زمن مضى، أنها لسان حاله، وأنها من خلاله ستكون ضميره وبالتالي ضمير وطنها، وفي الحقيقة الكثير من الإهمال غير المقبول، عدا عن كونه مقصودا ومتعمدا،-خصوصا عند شعب صمد سبع سنوات في وجه اعتى مكنة إعلامية تم تشكيلها لكسر إيمانه ببلده وأهله-، طال قطاعنا الإعلامي بصنوف أنواعه، في باعتباره”سلطة” رابعة قادرة على لعب دور مؤثر وحقيقي بين الشعب والحكومة وبالعكس، فالسلطة الرابعة عندما تُفعّل آلياتها وفق مستجدات العصر وبضمير مهني موثوق، تصبح قادرة على تغيير رأي محلي وعام، وهذا أحد أهم أدوارها،حيث شاهدنا وقرأنا في العديد من دول العالم التي استطاعت صحافتها أن تحبط مؤامرات عليها، وأن تكشف العديد من جرائم الفساد ونهب المال العام وتقويض الأمن فيها، لتكون في ذلك خير سند للحكومات في تصويب عملها، وللشعب في نقل أوجاعه وهمومه.
وهي أيضا في الضمير العام “سلطة رابعة”ومعها بقي الكثير من الأشخاص يتواصلون ولو على أرقام هواتفها، وهم على يقين بأنها ستنقل أصواتهم، لأن عملها لا يقل أهمية عن أعمال باقي السلطات الثلاث، إلا أنها تُعامل من قبل المؤسسات الرسمية المحلية باختلاف أنواعها، وكأنها هي من يجب عليها أن تنتظر خلو المسؤول في أشغاله، لتوجه إليه أسئلة تدور على لسان الناس، مثل: لماذا مؤسستك خاسرة أو بالأحرى لماذا مؤسستك موجودة؟ ماذا تفعل؟ كيف تخدم المجتمع في فترة الحرب، الناس الذين من المفترض أنها أي المؤسسة تعمل لأجلهم، ماذا قدمت للمجتمع بهذه النوائب التي نمر بها، هل كانت على قدر المسؤولية، أم أن الفساد طغى على العديد من مفاصلها فصارت آخر ما يعنيها الناس، طالما أن نظام “من تحت لـ تحت “ماشي، وشراء ضمائر بعض الصحفيين ليس بالأمر العسير، فتصبح الصحافة مقصية عن الخوض في هذا الشأن المريب أو ذاك.
أما أحد أسوأ ما تم خلقه من العدم، وجعله من الصحافة أيضا، هو تلك المكاتب الصحفية وبدعتها التي سبق ووصفنا عملها، حيث تم اختراعها لتكون ملحقا بالمسؤول الفلاني أو غيره، تعمل على تبييض صفحته، وتتواصل هي مع وسائل الإعلام، وعوض أن يكون عمل الصحفي هو الذهاب للعمل على كشف تلك الملابسة في أداء هذه المؤسسة أو تلك، يصبح عمله أن ينتظر ما يقوله المكتب الصحفي لتلك المؤسسات، حيث سيقرأ الناس عن أهمية ما قام به ذاك المسؤول، والمفارقة أن أغلب المشتغلين فيها– أي المكاتب الصحفية-، لا علاقة لهم بالصحافة والعمل الصحفي لا من قريب ولا من بعيد، وحرصهم على رضا المسؤول عنهم، هو ما يعنيهم في المقام الأول وإلا صاروا بلا عمل، وفقدوا امتيازات كونهم مدراء مكاتب صحفية!، فخامة اللقب تكفي عند أصحاب العقد الاجتماعية، وما أكثرها وما أكثرهم.
أول خطوة يجب فعلها لتفعيل دور إعلامنا بأنواعه “مقروء-مسموع-مرئي- هو العمل على إزالة تلك البدعة العجيبة الغريبة المسماة “مكاتب صحفية” وأن تعود علاقة الصحفي العامل في الصحافة المحلية “السلطة الرابعة”، مع المؤسسة نفسها ومع المسؤول عنها سواء كانت تقوم بأفضل الأعمال، أو على العكس تماما من هذا!.
تمّام علي بركات