ثقافة

معهد ناي.. ثمّة ما يمكن فعله دوماً

في التّحوّلات الكبرى التي تعصف بالكيانات الإنسانيّة أفراداً ومجتمعات وتهدّد الهويّات الوجوديّة في الصّميم، تخيّم ذهنيّة الاستسلام والأفكار النّمطيّة الموهنة للعزائم، عند قسم كبير من النّاس. يكثر الواقفون على الأطلال، والجالسون في سراديبهم، استمطاراً لأوراق اليانصيب العابرة للحلم، أو لغيوبٍ صديقةٍ تهديهم إلى صراطٍ مستقيم  يبرّرون به وجودهم العدميّ، ويزدهر عدد المرتدّين عن مناهجهم الفكريّة الرّصينة وقد تخلخل بنيانها بحثاً في ذاكرتهم وتاريخهم عن ماضٍ مخمليّ سعيد، ولكن “هل كان سعيداً حقّاً؟” لائذينَ برحمٍ  دافئ، كمحاولة تعويض نكوصيّة عمّا آلت إليه حالهم الحاضرة من نضوب فكري وروحي. في هذا العماء الاجتماعيّ والوجودي، تنفردُ الأرواح العالية لوحدها في اجتراحِ مآثرها الخاصّة، وقد وعت رسالتها الإنسانيّة والجمالية، مؤكدة بفرحٍ وتوقٍ حازمين، إمكانيّة الفعل، مهما احلولكَ الليل، خصوصاً، بعد أن غفتْ المؤسّسات الرّسمية الثّقافيّة على حريرِ إنجازاتها الموهومة. كان أوّل ما ينتظر هذه الأرواح، هو محاولة إنزال الفردوس من السماء إلى الأرض، وإعادة اكتشاف طاقات الكائن غير المفعّلة. والجميل بهذه المبادرات، هو استطاعتها كسر مركزيّة “المدينة” لصالح الأطراف المهمّشة، فالتجربة التي نحاول تسليط الضّوء عليها، نمت بذورها  في “الريف” ـ حيث الهواء الطلق ـ لتشكلَ غابة أمل وارفة الظّلال،على ضفاف النهر الكبير الشمالي في ريف اللاذقيّة الجميل. مبادرة تأسيس معهد، متعدّد النشاطات، قام بها شاب فنّان متوثّب الرّوح، رفض التّواكل والسّلبيّة،وراهن على مقدرات الإنسان فقط. هو الأستاذ “باسل الجردي” الذي أفضى إلينا ـ عبر دردشةٍ خفيفة ـ  بما حقّقته غراسه من ثمار حتّى الآن. مبتدئاً حديثه بتسميةٍ معهده المستوحاة من  شغفه بآلة “الناي” وثقته العالية بقدرتها السّخيّة الزّفرات على البوح بوجع الإنسان السّوري الذي طحنته الحرب. وسرعان ما انضمّت إليها أخواتها من الآلات الموسيقيّة المختلفة كـ :”البزق، العود، الكمان، الغيتار، الأورغ.. الخ”. ثمّ أينع الزّرع  حصاداً بمشاركة بعض طلاب المعهد بمسابقة الرّيادة على مستوى القطر، وترشيح أسماء ثلاثة طلاب  لبرنامج “the voice” وهم/ ناي الخطيب13سنة، تاج سليمان 7 سنوات، وصبا بيشاني 8 سنوات. وتتالتْ دورات تعليم الأطفال على أيدٍ خبيرة في مجالات الرّسم والخطّ العربي والنّحت والصّلصال، لتبدعَ لوحات يدوية جميلة من تدوير النفايات الطبيعيّة صديقة البيئة والتي أضفتْ بعداً جمالياً على المكان، خالقةً فسحة بصريّة للفرجة، لم تكن متوقّعة من: الرّمل والأزهار اليابسة وقشور البيض والبذور المختلفة، وقد استثمرتْ في كتابة الحروف المسمارية بدقة وإتقان، ويعتبر طلاب “معهد ناي” من الأطفال الذين لا يتعدّى عددهم “المائة”على مستوى سورية الذين يجيدون الكتابة بهذه اللغة بإشراف الآنسة القديرة “زينة حسن” ويتوّج المعهد نشاطاته بحفل سنوي لطلّابه، يقدّم خلاله نماذج ممّا قاموا به من أعمال فنية وموسيقيّة وذهنيّة متنوّعة. كما يشارك بمهرجان عين البيضاء الثقافي دوريّاً من خلال حفلات فصليّة توزّع نشاطاتها على مدارس المنطقة والمركز الثقافي فيها، الذي  يتجاوب معها بكلّ أشكال التّرحيب. ومن الإنجازات المهمّة التي يفتخر بها المعهد إدراجه منذ عام 2014 لعلم حديث هو علم “البرمجة اللّغوية العصبية” الضّروري للكبار كما الصّغار الذي يُعنى بتوجيه مقدرات الكائن في الاتجاه الإيجابي. فأنت عندما تبني طفلاً واثقاً بنفسه قادراً على استخدام طاقاته بالشّكل الأمثل ومراقبة سلوكه والتأقلم الفعال مع ما حوله وتوجيه مهاراته الدراسية والحياتية بالاتجاه الصّحيح، فإنّك تبني رجل المستقبل. والكبار يخضعون  لدورات متقدّمة بإشراف الأستاذ  “القاضي” عز الدين خضّور المعتمد من البورد الأمريكي. وقد خرّج المعهد أربع دورات “دبلوم” في البرمجة اللّغويّة العصبيّة وثلاث في “الذّكاء العاطفي” ودورة “ممارس” والآن هو بصدد تخريج دورة “ممارس متقدّم” تقول المهندسة “نجاح الجردي” إحدى نشيطات المعهد، بفخر: تلقّيتُ هذا العلم بسنّ النّضج، بإتباعي دورات متقدّمة ساعدتني على معرفة نفسي وما حولي بدقّةٍ أكثر، وأضفتْ بعداً جماليّاً على روحي وحياتي. وهذا ما رسّخ قناعة لديّ بأنّ إضافة المعارف والجمال إلى الحياة لا تتعلق بعمر محدّد ولا تتوقف طيلة حياة الإنسان. في عام 2015 افتتح نادٍ للقراءة والسّينما للكبار والصّغار، تُناقش فيه أعمال روائيّة وقصصيّة منتقاة بعناية لكتّاب عالميّين ومحليّين نهاية كلّ شهر، والهدف هو تطوير ذائقة التلقّي لدى مختلف الأجيال وإغنائها بالمفيد الدائم، كردٍّ إيجابي على كلّ ما خرّبته الحرب. وقد كرّم العديد من الأدباء بمناقشة نتاجاتهم كشكلٍ من أشكال الاحتفاء بهم. وشوهدتْ عشرات الأفلام السينمائيّة الحائزة على جوائز عالمية ومحلية. وفي عام 2017 حصلَ المعهد على ترخيص من وزارة الثقافة لممارسة  شتّى أنواع القراءات الثقافية، تلك الفكرة التي لاقت دعماً من الأديب المترجم الأستاذ “حسام خضور” الذي ساهم في ظهورها إلى الضّوء، له كلّ الشّكر. وثمّة نشاط آخر مهمّ هو افتتاح لدورات خاصّة بالحساب الذهني هذا العام تهدف لتنمية قدرات الأطفال التّخييّليّة والإبداعيّة وتعليمهم على استراتيجيات التفكير، باستخدام أداة “الأباكوس” اليابانيّة التي تساهم بتقوية تركيز الطفل وتوسيع مداركه ومقدراته الفكرية والمعرفيّة بالحساب وعلوم الحياة المختلفة بإشراف المهندسة باسمة زيني التي أثمرت جهودها بمشاركة طلاب المعهد بأولمبياد الحساب الذّهني الذي جرى في اللاذقية وقد حقّقوا مراتب متقدّمة فيه. أمّا الأهداف المستقبلية، فهي: الحلم بإنشاء فرقة موسيقيّة بمستوى راق، أشبه بأوركسترا،لكنّنا مازلنا نعاني من قلة الآلات والخبرات اللازمة لتشكليلها “كآلة التشيلو والفيولا والكونترباص وغيرها”، ومن أهداف الفرقة تعريف الأجيال الشّابة باالموسيقا والأغاني الرّاقية وتعريفها بالفلكلور الحقيقيّ الغني لبلدنا لتغذية ذاكرتها وروحها بالفنّ النّبيل. وهناك طموح آخر لتفعيل الحالة المسرحيّة وخلق أدواتها ومتطلباتها في الخطّة القادمة للمعهد حيث يتمّ الآن دراسة آليّات التّدريب واللّوازم الخاصّة بهذا المشروع. وثمّة نشاط إنساني بحتْ ـ لم يصرّح به مشرف المعهد ـ  وهو توزيع أموال صندوق التبرّعات الخيري الذي رافق المعهد منذ  تأسيسه عام 2012 على الفئات الأكثر تضرّراً في المنطقة.

أوس أحمد أسعد