د. السيد في أزاهيره الأدبية.. سنبلة أخرى في بيدر العطاء
سؤال يخطر في البال عن سبب اختيار د. محمود السيد الاتجاه إلى الشعر وقد عرفناه أكاديمياً وموسوعياً يبحث في علوم اللغة العربية والدفاع عنها وتمكينها أمام الهجمات التي تتعرض لها في زمن العولمة، لكنه سرعان ما يحضر الجواب في الصفحات الأولى من الكتاب، إذ يشير إلى ذلك قائلاً: إن الأزاهير التي أقدمها في هذا الكتاب ما هي إلا باقة من أدب اتسم بفرط الحساسية واتقاد المشاعر ورهافة الوجدان، حيث غلب الشعر فيه، والسبب يرجع إلى أنه يعمق الحياة فيجعل الساعة من العمر ساعات: “عش ساعة مفتوح النفس لمؤثرات الكون التي يعرض عنها سواك، ممتزجة طويتك بطويته الكبيرة، تكن قد عشت ما في وسع الإنسان أن يعيش، ولأن حقيبتك من أجود صنف من الوقت” فلنملأ العمر بمثل هذا الشعر البديع، نغنم أعماراً من المتعة والبهجة والنشوة الرفيعة تضاف إلى الأجل المحدود على حد تعبير الشاعر المبدع فاروق شوشة.
ويعترف د. السيد أن اعتماده على مدى قناعته بقدرة المعنى الذي تخيره على تخطي آفاق المحلية إلى الآفاق الأخرى الإنسانية عامة، ومكانة الشاعر المتخير له وملاءمته لذوق القارئ من حيث العفوية والتلقائية من جهة، والقدرة على التعبير عن العواطف الإنسانية من جهة أخرى، ومدى ما ألفاه لدى الشاعر من رهافة الحس والتعبير الصافي والإيجاز المذهل من جهة ثالثة.
ويضيف: إن المتخير لهم رحل بعضهم عن عالمنا، ومازال بعضهم أحياء يبدعون وينشرون إبداعهم، وهذه المختارات تضم بين ثناياها ما أمكن معظم الشعراء الفحول الكبار الراسخي القدم، الذائعي الصيت، إلى جانب شعراء آخرين ذوي تعبير متميز وشخصية متفردة، إلا أن حظهم من الشهرة لم يكن كبيراً، ولما كنت قد احتكمت في اختياري لذوقي وإحساسي، ولاعتقادي أنها ستحوز على إعجاب القارئ، أملت أن يكون المعيار الذي استندت إليه صادقاً، وعساي أن أكون قد وفقت في إبراز مواطن الجمال في معظم الشعر المتخير، وفي إعطاء القارئ بعض الأمثلة من حدائق أدبنا العربي، إذ أن فيه زهرة من كل بستان، وقطرة من كل ينبوع.
وفي تصدير كتابه ” أزاهير أدبية” الصادر عن دار الشرق للطباعة والنشر يتكئ د. محمود السيد على بواعث الشعر ومستوياته التي أشار إليها ابن رشيق القيرواني في كتابه “العمدة في محاسن الشعر وآدابه” وهي أربعة: الرغبة والرهبة والطرب والغضب، فمع الرغبة يكون المدح والشكر، ومع الرهبة يكون الاعتذار والاستعطاف، ومع الطرب يكون الشوق ورقة النسيب، ومع الغضب يكون الهجاء والوعيد والعتاب.
وثمة من أشار (حسب السيد) إلى أن الكرم والجمال من بواعث الشعر كما في قوله:
قالوا تركت الشعر قلت ضرورة
باب الدواعي والبواعث مغلق
خلت الديار فلا كريم يرتجى
منه النوال ولا مليح يعشق
أما أصناف الشعراء التي أشار إليها ابن رشيق فهي أربع زمر:
شاعر خنذيذ: هو الذي يجمع إلى جودة الشعر رواية الجيد من شعر غيره.
شاعر مُفْلِق: وهو مجوّد إلا أنه لا يروي لغيره.
شاعر فقط: وهو فوق الرديء بدرجة.
وشعرور: وهو لاشيء.
وثمة من صنف الشعراء على النحو التالي وهم أربعة: واحد يجري ولا يجرى معه.. واحد يخوض وسط المعمعة- واحد تشتهي ألا تسمعه- وواحد لا تستحي أن تصفعه.. ولله در الشاعر دعبل الخزاعي عندما قال:
يموت رديء الشعر من قبل أهله
وجيده يبقى وإن مات قائله
وينوه د. السيد إلى وجود بعض القول شعراً كان أم نثراً قد ينسب إلى قائله إلا أن بعض الأقوال لم يتبين قائلها فوضع إشارة استفهام تحتها، قائلاً: لقد اجتهدت أن يكون هذا الكتاب مرآة لمحاسن اللغة العربية وجمالها في عصورها الزاهرة، وشاهداً على سعة العربية وثروتها ومرونتها وتنوعها ومجاراتها للعصر.
ولكم أحس بالفخر عندما أرى نفراً من غير أبناء العربية يشيد بمزاياها، فالعالم البلجيكي جورج ساتورن قال: “وهب الله العربية مرونة جعلتها قادرة على أن تدوّن الوحي أحسن تدوين بجميع دقائق معانيه، وان تعبر عنه بعبارات عليها طلاوة وفيها متانة، وهي أسهل لغات العالم وأوضحها”.
ويقول العالم الألماني “فرينباغ”: “ليست لغة العرب أغنى لغات العالم فحسب، بل الذين نبغوا في التأليف بها لايمكن حصرهم، وإن اختلافنا عنهم في الزمان والسجايا والأخلاق، أقام بيننا نحن الغرباء عن العربية، وبين ما ألفوه حجابا لا نتبين ماوراءه إلا بصعوبة”.
وقالت المستشرقة الألمانية “زيغريد هونكه”: “كيف يستطيع الإنسان أن يقاوم جمال هذه اللغة ومنطقها السليم وسحرها الفريد، فجيران العرب أنفسهم في البلدان التي فتحوها سقطوا صرعى سحر تلك اللغة، حتى الذين بقوا على دينهم اندفعوا يتكلمون العربية بشغف، فماتت اللغة القبطية وتخلت اللغة الآرامية لغة السيد المسيح عن مركزها لتحتل مكانها لغة محمد (ص)”. وهذا ما أشار إليه “بروكلمان” في قوله: “بلغت العربية بفضل القرآن الكريم من الاتساع مدى لا تكاد تعرفه أي لغة أخرى من لغات الدنيا”.
أما المستشرق الألماني “هيلمت ريتر” فيرى أن الكتابة الإفرنجية معقدة، والكتابة العربية واضحة كل الوضوح، فإذا ما فتحت أي خطاب لن تجد أي صعوبة في قراءة أردأ خط كتب به، وهذه هي طبيعة الكتابة العربية التي تتسم بالسهولة والوضوح”.
بينما المستشرقة “ماري شميّل” مترجمة القرآن الكريم إلى الألمانية فتقول: “اللغة العربية لغة موسيقية جداً لا أستطيع أن أقول إلا أنها لابد أن تكون لغة الجنة”.
وحسب المستشرق النمساوي “جوستاف جرونياوم” أن اللغة العربية تمتاز بما ليس له قريب من اليسر في استعمال، وأن ما بها من كنايات ومجازات وإشعارات ليرفعها كثيراً فوق كل لغة بشرية أخرى، وهي مع هذه السعة والكثرة أخصر اللغات في إيصال المعاني والنقل إليها”.
ومن وجهة نظر المستشرق الايطالي “كارل نلينو” اللغة العربية تفوق سائر اللغات رونقاً، ويعجز اللسان عن وصف محاسنها” وفي رده على سلامة موسى الداعي إلى الكتابة بالعامية وبالأحرف اللاتينية يقول المستشرق “جويدي”: برأيي أن اللغة العربية آية للتعبير عن الأفكار، وأنا لا أرغب في أن ينسى الكتّاب الحاليون العلاقة بالماضي، لأن في الماضي العربي مجداً كبيراً، وهذه اللغة العربية أدت دوراً كبيراً في التاريخ العربي”.
وإذا انتقلنا إلى باقة من أقوال المستشرقين الفرنسيين فإننا نتوقف عند رأي المستشرق “أرنست رينان” إذ يقول: “من اغرب المدهشات أن تنبت تلك اللغة القوية، وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحارى عند أمة من الرحّل، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها، ولم يعرف لها في كل أطوار حياتها طفولة ولا شيخوخة، ولا نكاد نعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تبارى، ولا نعرف شبيهاً لهذه اللغة التي ظهرت للباحثين كاملة من غير تدرج، وبقيت محافظة على كيانها من كل شائبة”.
وقال الفرنسي “وليم مرسية”: “العبارة العربية كالعود إذا نقرت على أوتاره رنت لديك جميع الأوتار وخفقت، ثم تحرك اللغة في أعماق النفس من وراء حدود المعنى المباشر موكباً من العواطف والصور”.
وأشار الكاتب الفرنسي “جول فرن” في إحدى قصصه الخيالية إلى: “إن قوماً ركبوا سفينة واخترقوا باطن الكرة الأرضية وخطر لهم أن يتركوا هنالك أثراً يدل على مبالغ وصولهم، فتركوا هنالك حجراً نفشت عليه عبارة باللغة العربية، وعندما سألوا جون فرن لماذا اخترت اللغة العربية من بين اللغات الأخرى؟ أجاب: “لأنها لغة المستقبل، ولاشك أنه سيموت غيرها وتبقى هي حية حتى يرفع القرآن نفسه”.
ومن المستشرقين الأمريكيين الذين أشاروا إلى المستقبل الباهر للغة العربية المستشرق “ريتشارد كويهتيل”الذي قال: “كان للعربية ماضٍ مجيد، وفي مذهبي أنه سيكون لها مستقبل باهر، ولا غرو في ذلك لأن شعباً له آداب غنية متنوعة كالآداب العربية، ولغة لينة مرنة ذات مادة تكاد لا تفنى، لا يخون ماضيه ولا ينبذ إرثاً اتصل إليه بعد قرون طويلة من آبائه وأجداده”
وثمة مستشرق أمريكي آخر هو “وليم ورل” يقول: “أما سؤالكم عن مستقبل اللغة العربية فالجواب عليه أن هذه اللغة لم تتقهقر قط فيما مضى أمام أي لغة أخرى من اللغات التي احتكت بها، وينتظر أن نحافظ على كيانها في المستقبل كما حافظت عليه في الماضي”.
ويضيف د. السيد: لا ضير في أن نشير إلى ما أبانه نفر من أبناء العربية من الأدباء والمفكرين بخصوص المكانة المرموقة التي تحتلها لغتنا العربية الفصيحة وما تمتاز به، فهاهو الأديب مصطفى صادق الرافعي يقول: “إن اللغة العربية تمتاز عن اللغات كافة بارتباطها بالأصلين العظيمين الخالدين “القرآن والحديث” وليس يخفى أن الكيان الإنساني قائم على القوى الأدبية، وأصل هذه القوى في العالم الإسلامي هو القرآن، وهو كذلك أصبح من وجوه كثيرة كأنه أصل اللغة”. ويقول أيضاً:
“ما ذلت لغة شعب إلا ذل، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار” وقد قيل: “إذا سلبت البلاد عنوان انتمائها وهو اللغة فكأنما سلبت من كل فرد ذاتيته”.
وقال جبر ضومط عضو مجمع اللغة العربية بدمشق: “لغة القرآن الكريم والحديث النبوي وسائر الآداب العربية منذ عهد الرسول إلى اليوم أقوى من سائر اللغات الأوروبية على هضم اللهجات العامية المختلفة، وستبقى هذه اللغة الشريفة كما كانت لغة العلم والمتعلمين والأدباء والمتأدبين، ولغة الصحافة والمؤلفين إلى ماشاء الله”.
ونحا هذا المنحى الشاعر خليل مطران عندما يقول: “لا تنس أن الاستمرار في تعلم الفصحى وتعليمها والاهتمام بتسهيلها وتقريبها وتعميمها هو أنها لغة القرآن الكريم، وكفى بهذا بيانا لقوم مبصرين”.
وقال معروف الرصافي:
وتجمعنا جوامع كبريات
وأولهن سيدة اللغات
كما قال أحمد شوقي:
وتجمعنا إذا اختلفت بلاد
بيان غير مختلف ونطق
وقال نزار قباني:
إني أحبك كي أبقى على صلة
بالله، بالأرض، بالتاريخ، بالزمن
أنتِ البلاد التي تعطي هويتها
من لا يحبك يبقى دونما وطن
وقال سليمان العيسى على لسان العربية أيضا:
إذا تقطعت الأرحام بينكم
إذا تراكمت الأسوار والحجب
إذا التمستم من الدنيا هويتكم
وضاع خلف تخوم الغربة النسب
فلا تخافوا.. لكم صدر يضمكم
ستلتقون على صدري.. أنا العرب
وقال الشاعر بدوي الجبل:
للضاد ترجع انساب مفرقة
فالضاد أحسن أم برّةٍ وأبِ
تفنى العصور وتبقى الضاد خالدة
شجاً بحلق غريب الدار مغتصب
وإذا كانت هذه الأقوال كافة تبين أهمية اللغة الأم ودورها في الحفاظ على هوية الفرد العربي والأمة، والدعوة إلى صونها وحمايتها، فإننا لا يمكن أن ننسى ما ورد في فقه اللغة للثعالبي حيث جاء فيه: “من أحب الله أحب رسوله المصطفى “ص” ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية، ومن أحب اللغة العربية عُني بها، وثابر عليها وصرف همه إليها”.
ويختم د. السيد تقديمه لهذه الأزاهير بقوله: “من أمارات حب العربية أن نحبب ناشئتنا وأبناءنا بها بطريق ما نتخيره لهم من روائع ما في تراثنا حكماً وحنيناً وشوقاً وحباً وفضائل ووصفاً… الخ وعساهم يجدون في هذه الأزاهير ماينفعهم ويزودهم بنفحات من أعذب الشعر، وأجمل القول”.
أما د. نبيل طعمة فقدم للكتاب ببعض الرؤى من بستان د. السيد الفكري فقال: إنه كاد أن يكون بمفرده امة، وهو الذي أنجب بضعة وخمسين مؤلفاً، يدخل علينا بأزاهيره الأدبية، مقدماً الأمثال والحكم، داخلاً من صوفية العرفانية المؤمنة بضرورات الاشتغال إلى الحياة، حيث يحاورنا عن التصوف، تلمع عيناه، يتمتم في الحب والعشق، وتتحرك وجناته مختلجة حين يتابع عن الحنين والتعلق بالوطن، وقضايا الأمة، يعود بالوصف والتوصيف، يرسم سماتها الشخصية والنفسية، معلياً من شأن المكارم والأخلاق، داعياً للتحلي بالمناقب، يقاسمنا الأحزان في الرثاء، يختار أشعار الغرباء عن لغتنا العربية، علنا نتطلع عليها مقارنين ما خطه شعراؤنا، ويختم مخطوطه بمتفرقات متنوعة، تغلق عليها دفته الأخيرة.
أما أقسام الكتاب فتوزعت أزاهيره على فصول حيث تضمن الفصل الأول: “أزاهير عالمية وعربية في بستان الأمثال والحكم” ويقتصر الكلام في هذا الفصل على الأمثال والحكم العالمية والعربية في النثر والشعر التي تعني الأقوال السائرة بين الناس والتي تتخذ منها العبرة والعظة والدرس.
وتناول الفصل الثاني “أزاهير من بستان التصوف”، والفصل الثالث تضمن “أزاهير وجدانية في بستان الحب والعشق”، واحتوى الفصل الرابع على “أزاهير في بستان الحنين والتعلق بالوطن وقضايا الأمة”، والفصل الخامس “أزاهير في الوصف، والفصل السادس أزاهير في بستان السمات الشخصية والنفسية”، وشمل الفصل السابع أزاهير بستان “التربية والتحلي بالمناقب”، وجاءت أزاهير الفصل الثامن “مسقية بالدمع” لتأتي أزاهير الفصل التاسع من “بساتين غير عربية”، بينما جمعت أزاهير الفصل العاشر من “بساتين متنوعة”.
عرض: سلوى عباس