معرض الكتاب في نسخته التاسعة والعشرون، الحياة التي لا تعرف إلا الحياة
ليل دمشق منار بحروف وكلمات طائرة بخفة نسائم آب الحارة، حروف وكتب من ضوء، تبدو في طيرانها المذهل، كفراشات مضيئة في سماء ساحة الأمويين، وما يتفرع عنها من شوارع وأحياء، حيث رائحة الألفة تعلن عن نفسها في الأجواء، وكأنها محمولة على أوراق الحبق المزروع على شرفات السوريين وفي وجدانهم أيضا، فالحدث عزيز وغال، وله ما له في النفوس والقلوب عندهم، أهل الكتاب، وفي سورية عموما، بيت حب الحكمة والفكر، إنه معرض الكتاب بنسخته التاسعة والعشرين، الذي رفع أشرعة متعة العقل وبدأ يعرض صفحاته على الزمان.
وللأجيال السورية الجديدة التي لم تعرف ماذا يعني هذا الحدث لا بد من القول، أن معرض الكتاب في سورية، ليس حدثا ثقافيا واجتماعيا فقط، بل هو حدث عاطفي بحت، بينه وبين السوريين علاقة من نوع خاص، فالحب هنا هو من يحكم هذه العلاقة، لا واقع الوجود، كما أن إقامة معرض الكتاب في مكتبة الأسد الوطنية، له ما له من دلالات في هذا التوقيت الذي تخط فيه تفاصيل الزمان، زنود أمراء الزمان، ولكن بحروف من نور ونار، والجمهور السوري يقدّر الكتاب ويحترم هذه التظاهرة الثقافية والوجدانية بأجوائها الصيفية الفيروزية المساء، وألفتها الممتزجة برائحة ألوف الكتب، وكأن تلك الأوراق عادت لحاء شجرة ما، فصعد عبقها وصار كل كتاب يدل على أصله، هذا سنديان وذاك ورد، هذا حور وذاك جوز.
في ساحة الأمويين وفي مكتبة “الأسد” “درة الساحة” المفاخرة بهامتها العالية، اصطفت دور النشر السورية والعربية تعرض نتاجها الفكري والأدبي، تعرض آخر ما توصلت إليه العلوم، عدا عن مواضيع لا حد لها وعناوين لا تحصى وفي مختلف شؤون وعلوم الحياة وأدبها وفنها، وعلى طريقة السوريين في عيش يومياتهم، فإن كل فسحة لتنفس هواء الزمن الهانئ الذي فارقوه منذ بداية حرب، يجب أن تكون لحظة احتفالية، يحضر فيها الصخب والفرح والضحك، يحضر فيها اللقاء بأبهى معانيه بين الناس، الذين وبشكل لا شعوري يقدمون المساعدة لبعضهم البعض في كل شيء، بدءاً من إعطاء قنينة الماء لجار كتاب عطش في هذا الحر، وليس انتهاء بنصيحة عن هذا الكتاب وأخرى عن ذاك.
الصحب أيضا يلتقون، صحبة الكتاب والهم الثقافي الواحد، صحبة العمر الطويل بين أصدقاء باعدت الحرب بين دروبهم، صحبة الأحلام في تغير العالم بقصيدة أو بكتاب، بمسرحية أو بفيلم سينما، وما من داع لشرح طبيعة لقاء كهذا، فهو بأقل حال، يجعل الذكرى تعانق الذكرى حتى لو اكتفت الأيادي بالسلام.
الناس والمعرض
في المعرض مختلف صنوف المحبين لهذه التظاهرة الحميمية أولا وللكتب التي تأتي إليهم، خصوصا تلك التي يصعب الحصول عليها، كما يوجد فيه حضور بهي للعائلة السورية التي تأتي لتعرّف أولادها بهذا المعرض وبتاريخه، ولتغرس فيهم ذات قيم المحبة التي غرسها فيهم أباؤهم، لذا فلكل كتاب صاحب ينتظر أن يجده، وكل يبحث عما يعنيه ويخصه.
الشاعر السوري العتيق “محمد عضيمة” كان من رواد المعرض الذي أطلق فيه وعبر دار التكوين المشاركة بالمعرض بشكل دوري، كتابه الجديد، وبعيدا عن الحديث عن الكتاب وأصدائه التي لم تظهر بعد، أحب “عضيمة” أحد أهم شعراء الهايكو” في سورية، أن يحتفي بالحدث نفسه، كان ضاحكا وقلبه كقلب طفل صغير يدخل متجرا للألعاب، حدثنا بعميق الود، عن حياة لا تحيا إلا بنسغ أبناء الحياة” معرض الكتاب هو انتصار لإرادة الشعب السوري أولا وأخيرا، وهو إنجاز لا يقدر بثمن من إنجازات الجيش العربي السوري الرسولي وحامي الحمى ومن معه من الحلفاء، فلولا عزمهم الذي يفل حديد كل ظلم الطغاة، لما كان ثمة معرض الآن، لكن السوريين كما قلت أبناء الحياة وهذه ثقافة متجذرة في وعيهم الجمعي منذ ألوف من السنين” -سلام حار من بعض المارة بالمكان على الشاعر المغترب باليابان، رد السلام ثم عاد لحديثه-، “سورية انتصرت، انتصرت فيها الحياة على الموت، والشعر على كوابيس الكلام، سورية هذا قدرها وقدر أبنائها، وهم بكل تأكيد، أهل بالحياة، والحياة تليق بهم”. وفي الحديث عن العناوين الموجودة وأهمية دور النشر المشاركة قال صاحب كتاب “الشعراء يلتقطون الحصى والنهار يضحك على النّاس”:”كل يذهب إلى حيث يهوى، لكن عموما العناوين متنوعة وغزيرة، وفيها كل ما يلبي طموح القارئ بحصوله على كتاب جيد، والأهم أنه وحتى اللحظة – أي الكتاب- يباع في معرض الكتاب بسعر بخس بما لا يقارن مع أسعار الكتب حتى في الدول المتحضرة، لكن إقامة المعرض بحد ذاتها، لا شعور يصفها، لأنها تشي بالتعافي من الألم”.
أما السيدة وفاء منصور – مشرفة تربوية، قالت عن المعرض:”يمثل حياة كاملة نتنفس شغفها على مدار أيام إقامته، حيث العلاقة الحميمية مع الكتاب، تجعل من الصعب على محبيه ومنهم أنا -وهم كثر بالمناسبة على عكس ما تروج له الميديا الخليجية، لأنه يهمها أن يتراجع أي دور حضاري كي لا تنكشف عوراتهم-، إلا أن يعودوا مرة وأثنيتن وثلاث، وأنا أيضا أعود إلى هذا المكان بما أحمله له في ذاكرتي مذ كنت طالبة في الجامعة وأرتاده لقراءة المراجع وما شابه، ليس فقط لأنال كقارئة مرادي من الكتب، بل إنني أبحث عن لقائي بالآخرين، تعبير عفوي عن شوقي لهم واكتشافي أنهم أيضا مشتاقون لي كإنسان سوري، فلقد وحد الوجع قلوبنا وأرواحنا وجعلنا أكثر قوة ومناعة” أخذت السيدة وفاء شربة ماء باردة من عبوة ابنتها الصغيرة وتابعت “الحرب أنهكتنا لكن مقاومة انعكاساتها السلبية على الروح، يجب محاربتها بكل ما هو جميل، بالموسيقا والشعر، بالأدب عموما والفن، والمعرض بأجوائه التي يحققها، يجعل كل هذا ممكنا في لحظة”.
وفي الوقت الذي لم تكن فيه السيدة وفاء قد انتقت جميع كتبها، كان “مازن” الشاب الجامعي يتنشق نسائم حياة يحبها.الشاب الذي يقطن في المدينة الجامعية، حيث انتظار موعد معرض الكتاب، هو حالة يحياها ليس من الأمس القريب، بل منذ مجيئه للدراسة في دمشق من “إدلب” منذ سبع سنوات، قد انتهى وفي اليوم الثاني لانطلاق المعرض، من شراء ما أراد من الكتب، لكنه ظل مواظبا على الذهاب إلى المعرض لأنه كما قال: “أنا مشتاق للناس، لأحاديثهم الخفيضة، لألفتهم وحرارة وجودنا معا وما يعنيه هذا خلال هذه الفترة العصيبة التي مررنا بها.
أما السيدة “عفراء هدبا” المشاركة أيضا بالمعرض من خلال دار “دلمون” والتي بدا وجهها مشرقا بالبهجة رغم آثار التعب والجهد البادي على محياها، فقد تحدثت عن صعوبات بالتأكيد تترافق وأي عمل، لكن متعة العلاقة مع الكتاب، وحالة الفرح والصخب العام للناس ولأصواتهم، لروائحهم وملامحهم، يجعل كل هذا التعب يذهب ولو بلحظات أقضيها متأملة شاب وفتاة يبدو أنهما محبان، يقومان بتوقيع كل كتاب يبتاعونه ويدونون عليه تاريخ حصولهم عليه، وعندما سألتهم بعد أن زاروا معرض الدار وطلبوا إلي كتابا حيث شرحوا لي لماذا يفعلون هذا، قالوا ليتذكروا أن يحكوا لأولادهم وأحفادهم، كيف قاومت هذه البلد بالبندقية والكتاب كل شرور العالم”.
جناح ومسؤول
حركة لا تهدأ، وكأنها مكوك حائك طائش، شهدها جناح الهيئة العامة السورية للكتاب، بعد أن حملت رفوفه الكثير من العناوين المهمة التي أصدرتها الهيئة، منها ما هو حديث العهد، ومنها ما يصل عمره لعشرات السنين، حتى أن الشباب الذين يعملون على صندوق الحساب وهم غير معتادين على هذا، صار الضغط عليهم لا يحتمل، وهذا بدا من انشغالهم الشديد في كتابة الفواتير وتوضيب الكتب المشتراة لتلك السيدة أو ذاك الرجل.
وأمام الصالة الخاصة بالهيئة، وقف الدكتور ثائر زين الدين مدير الهيئة السورية العامة للكتاب وكأنه كما يقال في العامية “أم العروس” إنه منشغل طوال الوقت، إما في حديث صحفي، أو في استفسارات من زوار المعرض والجناح الخاص بوزارة الثقافة بهذا الكتاب وغيره، وفي لحظة هدوء التقط فيها أنفاسه، تكلم إلينا عن هذه الوفرة بالزبائن على كتب الهيئة، حيث قال: “دأبت سورية ومنذ عهد طويل على جعل قيمة الكتاب من القيم الأعلى شأنا، لأننا نعرف أن الكتاب هو من شكّل وعي الناس وثقافتهم، وهو من حمل رسائلهم وخلّد أفعالهم، والهيئة السورية للكتاب، وبالكتب التي أصدرتها خلال عقود من عملها، سعت دائما لتنويع المواضيع والأفكار في إصدارتها المنوعة، والتي ذهبت حتى إلى الكتب المتعلقة بالفن السابع، وربما نحن من القلة في العالم الذين يهتمون بهذا النوع المهم من الكتب، كما أن للهيئة أسلوبها العريق وقوانينها التي لا تعترف إلا بالكتاب الذي يحمل قيمة فكرية أو اجتماعية أو ثقافية أو إنسانية، عدا عن الشروط الفنية التي يجب أن تتوفر بالكتاب أيضا” وبعد رده السلام على أحد الزوار تحدث زين الدين عن سبب هذا الإقبال على جناح الهيئة، التي قامت بوضع تخفيضات كبيرة على مختلف أنواع الكتب، حيث يمكن أن يقتني القارئ مجموعة نقدية قيّمة من ثلاثة كتب، بما لا يزيد عن ألف ليرة سورية، كما أنه يوجد كتب يصل سعرها لـ “60” ليرة سورية يعني أقل من سعر “بسكويتة” لطفل، وهذا له سببه الحقيقة، أو لأكن أكثر دقة، هذه واحدة من استراتيجيات وزارة الثقافة ورؤيتها منذ مدة طويلة، ليصل الكتاب إلى جميع الناس، ووضعه بين أيديهم بقيمة رمزية جدا، عدا عن تنوع العناوين التي تهم القارئ ومن كل الأذواق، معرض الكتاب هو أحد أدلتنا الواقعية على أن سورية سطرت بالدم والنور نظرية الحياة التي هي في طبيعتها ضد الموت.
كل الزملاء الإعلاميين والصحفيين مشغولين إما بلقاء مع مؤلف أحد الكتب المعروضة، أو في دردشة مع الزوار، والسلام كان طائرا بيننا براحة اليد، لكن هذا لم يمنع، أن يذهب كل إلى حيث يهوى قلبه، لينتقي كتبه قبل أن يعود لعمله مرة أخرى، مشغولا بحب صادق، من أجل نقل صورة هذا الحدث السوري المميز إلى هذا العالم الهمجي، الذي لا يعرف أن يقدّر أي فعل إنساني إلا إن كان من احتكره وجعله سلعة.
وخلف الكواليس والكاميرات والمايكات، خلف الضحكات والهرج والمرج، خلف القصائد والروايات والخيال العلمي، خلف الأطفال وأهاليهم، خلف الزمان وضيوفه، وقف جندي سوري بلباسه الميداني الكامل، يؤدي التحية لعلم البلاد، ويرحب بالقادمين، أنتم بخير وبأمان، تفضلوا وكونوا بخير فنحن هنا.
تمّام علي بركات