ثقافة

ضجيج!

تختلف ميول الناس وأهدافهم، وتفترق أساليب الممارسة، حتّى في حالات الاتّفاق في العمل والموقف والشعور؛ ففي الوقت الذي يحبّ بعض الناس بصمت، ويميلون إلى جهة أو مسألة بلا إفصاح، ويغتبطون في دواخلهم؛ أو ينزعجون من أحد، وينفرون من مشهد بلا صخب.. مع ما قد يظهر على ملامحهم وسلوكهم من أثر أو انعكاس محدود، لمن هم قريبون منهم؛ يُظهر آخرون انفعالاتهم بعلنيّة، ويبالغون في ذلك؛ فتعرف المنطقة كلّها (والعالم الافتراضي) بهيامهم أو بُغضهم، ويسمع القاصي والداني بعواطفهم ورغباتهم.

وقد تكوّن موقفاً من أمر؛ أيّ أمر، بعد أناة وتفكير، وتحتفظ به لنفسك، ولا تصرّح بفحواه، إلّا إذا طُلب منك ذلك، وفي الحدود التي تتطلّبه الحالة، وتجد أنّ في إعلانه فائدة جمعيّة، ويشكّل هذا التزاماً منك به، فتسوّغ خيارك، وتدافع عنه، وقد تضحّي في سبيله؛ فيما يُشرِع سواك أفكاره، أو ما يعتقده آخرون، من دون أن يكون ذلك مطلوباً أو مرغوباً، ويسارع إلى إعلان موقف في غير مكانه وزمانه، ويتحمّس من أجله، ولا بأس لديه بتغييره، بعد وقت قريب، بالسرعة عينها والحماسة ذاتها، إذا وجد في ذلك مصلحة مباشرة، أو إذا طلب منه ذلك!

ولا يتوقّف هذا الموضوع على الأشياء الصغيرة والشخصيّة، أو التي تتعلّق بعدد محدود من الأشخاص، في الأسرة أو الحارة أو المكتب؛ بل ينسحب على القضايا العامّة والكبيرة، التي تكاد تكون مصيريّة.

إنّ للضجيج (والغبار) الذي يرافق الحالة، ويُعلن عبره الموقف، حتّى لو كان هذا الموقف مشروعاً، تأثيراً سلبيّاً، لا على الضاجّ نفسه فحسب؛ بل على المتلقّين، وعلى الموقف ذاته.

وليس الضجيج صحّيّاً، في الحياة العامّة والخاصّة، وله تأثير ضارّ على الجسد والنفس، من أيّ مصدر أتى، وفي أيّ زمان ومكان. لكنّ الضجيج الذي نقصده هنا مختلف عن ضجيج المدينة والآلات والأعراس، وظروف الحياة المختلفة.. إنّه يتعلّق بطبيعة الإنسان وسلوكه إزاء ما يحسّ، ويفكّر، ويشعر، ويقرّر، ويمارس. وهو غير مناسب حتّى في السلام والكلام، في الضحك والبكاء، في الحديث والحوار. والمقصود من هذا الضجيج، أحياناً، الهيمنةَ على مشاعر الآخرين، والتأثير على نفسيّاتهم، وإشغالهم عن التفكير في معنى ذلك وجدواه، وسلبهم القدرة على المحاكمة، وقراءة الأسباب، والنتائج، ويكون أحياناً هروباً من حالة سلبيّة، أو للتغطية عليها، وتعويضاً عن نقص القناعة وضعف الحجّة. وقد يلجأ بعضٌ إلى تسويق ذلك وتعميمه، بالضجيج ذاته، عن طريق سذّج أو تابعين أو مأجورين.. فإذا ما حدث هذا آنيّاً، فإنّه لن يستمرّ طويلاً. وإذا ما كان تأثير الضجيج محدوداً في الحيّز الضيّق، فإنّ انعكاساته المؤذية تستشري، حين يكون المدى مفتوحاً على مختلف الشرائح، والمستويات؛ فتضيع الأصوات الأخرى، وتتشتّت الآراء الأخرى، ويصبح من الصعوبة بمكان تقصّي ارتداداته، ومقاومتها. والخسارة تتضاعف حين يكون الموقف صحيحاً ومشروعاً، والأهداف مقدّرة، فيؤثّر الضجيج سلباً على سلامة الموقف؛ من خلال النفور من صاحبه أو القائلين به، وينسحب هذا الشعور على الموقف ذاته؛ إنّهم مسيئون من حيث يعلمون أو لا يعلمون، وهذا لا يعني عدم الإجهار بالحقّ والموقف النبيل والشعور الإنسانيّ؛ بل هذا ضروريّ وواجب، لكنّ المبالغة في ذلك ضارّة، والمتاجرة به مؤذية، والمساومة عليه مفسدة. ومن الناس من يفاخر بعلاقات، ولقاءات، ويستغرق في الحديث عن وقائع، تحتاج إلى توثيق، من دون أيّ اعتبار لمقامات الناس، الذين يتحدّث عنهم، ومسؤوليّاتهم، ورأيهم في نشر تلك الوقائع بهذه الطرق المنفّرة، ومن دون اهتمام بوعي السامعين وردود أفعالهم. ومن الناس من لا يتركونك بحالك، وقد تركتهم، يقومون بما يرونه مناسباً لهم، ويفرضون عليك مشاركتهم انفعالات الحبّ والبغضاء، بالدرجة التي لديهم، ويجب أن تنتصر لهم وبهم، بلا أسباب النصر وعلائمه، وترقص لفرحهم، وتنتحب لحزنهم، غير مبالين بكيانك وأفكارك وعواطفك وظروفك. وهم إن أحبّوك، اجتاحوك، وإن انزعجوا منك، هاجموك بشراسة، وأشاعوا عنك ما يعرفون، وما يفترون. إنّه أسلوب إعلاميّ وسياسيّ قديم ومتجدّد، لا يتوقّف على الأفراد؛ بل تلجأ إليه الدوائر والمؤسّسات والدول أيضاً لفرض رؤاها، وتأمين الموافقة على ما تريد، من دون تفكير أو إحساس، أو تقدير.

إنّ عملك الهادئ الجادّ، واتّخاذك المواقف الرصينة المبنيّة على تفكير واقتناع، ونشرها بإدراك ومسؤوليّة، مع المسوّغات ومحاولات الإقناع، أفضل بما لا يقاس، من التغنّي بالمواقف، والعلاقات، والبطولات، الحقيقيّة منها والمدّعاة، بضجيج وغبار.. إنه السلوك الذي يؤدّي بك إلى نتائج مُرضِية للنفس والآخرين، ولو بعد حين.

غسّان كامل ونّوس