ثقافة

أغاني الرّاب السورية بين الانسلاخ الشّرقي والانصهار الغربيّ

بلغةٍ أقرب للغة الشارع الذي لا يروق لمعظمنا السماح له دخول منازله، وبموسيقا أبعد ماتكون عن الألحان التي عرفناها أو سمعناها أو حتى أحببناها… تقتحم أغاني الرّاب سوق الأغاني والفن السوري في محاولة لإثبات وجودها بالحد الأدنى وتوسيع دائرة مريديها ومستمعيها بالحد الأعلى.

تنتمي أغاني الراب لموسيقا الشارع الأمريكي بما يتضمنه من عنف، وتشرّد، وجريمة، إنها أغاني الطبقة المسحوقة، المهمّشة، ولسان حال الشباب الأمريكي الضّائع المحطّم الذي لا ينتمي بأيّ حالٍ من الأحوال لثقافة مشتركة، أو نظام إنساني واحد يؤلّف فيما بينه، ومن هنا انطلقت موسيقا “الرّاب” في الشارع الأمريكي كوسيلة تنفيس لهؤلاء الشّباب الذي يبحث عن نفسه وعن حقوقه في ظل دولة الحلم والهجرات الموعودة التي يبدو أنها لا تنتهي، فصاغوا مخاوفهم وتطلعاتهم موسيقا إن صحّ اعتبارها موسيقا بل هي أشبه ما تكون بالحكايا المنفردة التائهة عن النوتة الموسيقية، مشبعة عبارات سوقية، وقصص مراهقة قد تبدو لنا في عمر معيّن سخيفة وغير ذات أهمية، ولكنّها بدت في غاية الأهمية  لهؤلاء الذين تمرّسوا التّحدّث بلغة الراب فانطلقوا بعيداً عن أية قيود فنّية أو ثقافية، أو حتى أخلاقية لصياغة حالة جديدة عمّموها على كافة الشّعب الأمريكي الأسود والأبيض على حد سواء، وليصبح الراب فرعاً مهماً ومحترماً من الموسيقا الأمريكية وله فنّانون يتحدثون باسمه، وجوائز تقدّم لأعلامه وتتغنى بحاضره ومستقبله.

وبعد سنوات الولادة والمجد لهذا النوع من الموسيقى تلقفت الدول العربية هذا الفن وتبنته مصممة على استنساخه حتى الرْمق الأخير، وخصوصاً بلاد المغرب العربي، الذي يبدو أقرب لغوياً بحكم ظروف استعماره للثقافة الغربيّة، حيث أسس لنفسه نوعاً خاصاً من الراب مازجاً بين الحضارتين الغربية والعربية في محاولاته التقليد الموسيقي هذا.

وكان يبدو بالنسبة لي معقولاً هذا التمازج الموسيقي بين كلتا الحضارتين بما أني أجد صعوبة في فهم أغاني “إيمينيم” محطّم الأرقام الموسيقية في أسرع دفق لغوي لأغنية راب في الثانية، وأغاني البلاد المغاربية اللتان تبدوان بالنسبة لي غريبتا اللفظ والفهم على حدٍّ سواء، ولكن أن أسمع أغنية راب باللهجة السوريّة جعلني أعيد الاستماع والتّفكير بهذا النوع من الموسيقا التي اكتسحت السمع السوري مؤخراً، مجدّدةً حضورها مع أغنية “قصي خولي” والذي أعاد الضوء ووجهّه من خلالها نحو موسيقا الراب كنوعٍ من التعبير عن النفس، وإن كان خولي قد أخذ الضوء كله باسمه الذي بدا أكبر، وأكثر قرباً من الجمهور واهتماماته من الأغنية بحدّ ذاتها، والتي ساهم وجود “الخولي” فيها بانتشارها وتسليط الضوء عليها، وبهذا لاتكون تجربته مقياساً ناجعاً لقياس مدى تأثير هذه الأغاني، ووجودها وانتشارها داخل المجتمع السوري وبين شبابه وشاباته، فهذه الأغنية بفرديتها وانتشارها لا تعبر عن موسيقا الراب التي نتحدث عنها ونتناول بشيءٍ من التّقريع محتوياتها.

مما لا شك فيه أن كلتا التجربتان الغربية والسورية قي مجال الراب تتشابهان لحدٍّ كبير، وإن اختلفت اللغة، حيث حالة الغضب والسخط اتجاه قضية أو ظاهرة ما تخرج كلماتِ عامية مقفاة غير مراعية لأصولٍ أو لقواعد لغوية أو أدبية أو حتى سمعية، إنها فقط حالة نفور تحاول أن تستوعبها كلماتٍ تخرج متسارعة من أفواه مغنيين أو “مؤديين” غير مهتمين كثيراً بالخامة واللباقة الموسيقية، أو الرنين وطبقات الصوت ومخارج النغم التي تهم مغنيين غيرهم، وغير معنيين أيضاً بثقل كلماتهم أو مدى خدشها للحياء، وهذا الخدش بحد ذاته هو نفسه أحد دعائم هذه الصّناعة الغنائيّة، إنها الصّدمة التي تعتريك عندما تستمع لأغاني الرّاب، والتي تدفعك لتكرار سماعها للتأكد إن كان ما سمعته من ألفاظ نابية حقيقي!؟ ولتسأل نفسك مشكّكاً متى تحوّل هذا الشتم والسبّ لحالة موسيقية..!؟

حالة تبدو مقبولة لنا في دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية أما هنا فتبدو مهمة القبول مستحيلة، إن هذه الصدمة الثقافية تعتبر مميتة بالنسبة لنا، فلو لم يتم النسخ واللصق لأغاني الراب السورية بكل هذه القسوة والهمجية فلربما كانت نجحت هذه التجربة بشكل أكبر في سوق الاستهلاك الموسيقي السوري، وهو المشبع والمتخم يومياً بحالات جديدة متجدّدة من المواهب الغنائية التي تبحث لها عن قاعدة ووجود لتعبر عن نفسها وطموحاتها، وبالذات في ظل هذه الحرب التي استحدثت من الفنون، والحالات ما لاطاقة لنا به، ولكن هذه الصدمة لا تعني بالضرورة أن ننكر على موسيقا الراب محاولة إثبات نفسها، والبحث لها عن وجود ومكان في ظل هذا التخبّط النفسي والثقافي الذي يصيبنا كشباب بالدرجة الأولى، غير قادر على العودة لماضٍ متين أو التّقدّم نحو مستقبل ثابت.

وهذا هو الشباب نفسه الذي يشكل نواة ومصدر إلهام لهذا النوع من الموسيقا، وفي الحقيقة مايعيبها في مجتمعنا هو محدودية جمهورها وخصوصيته من حيث العمر والانتماء والهوى، وهذا الجمهور بحد ذاته يشكل حالة غريبة ولكن بالتأكيد ليست أغرب من اللهجة السورية تُغنّى راب.

وبعيداً عن الشكل الصارخ، والمحتوى الجارح يظل الصدق والصراحة “المفرطة” في التعبير عن مشاكل حياتنا اليومية وقرفنا من هذه الأوضاع وضياعنا حكر على هذا النوع من الأداء الموسيقي، ولكن هذا الإفراط بالعاطفة والصدق يبدو أنه ينفلت في لحظة ويتحوّل مقرفاً ومثيراً للاشمئزاز أكثر من الوضع الذي نعيشه نفسه، ومعه تبدو مطالباتنا “للرابرز” بكلمات أقرب مايكون لأدبنا ولغة بيوتنا المحكية ظالمة جداً بحقّ هذا التقليد الأعمى للنمط الغربي والذي أسهمت وسائل الاتصال الحديثة في زيادة رقعة وجوده ونفاذه.

“هنا سورية يا مان” ومايصلح هنا لا يصلح هناك والعكس صحيح، ونحن نقبل الاستيراد والتصدير الثقافي ولكن ليس بكل تلك الحدة والسّوقيّة، فنحن نحاول مستميتين أن ننمّق أفكارنا وكلماتنا ونشذّبها، نعقّمها أخلاقياً ولغوياً لتُصَدّر للآخرين وتُناسب أسماعهم، نحاول أن نبحث عن المضيء المشرق في كلماتنا، ننتقيها بين بعضنا، حتى مع أنفسنا نحاول مخاطبتها بأرقى ما يكون، فكيف سنرضى أن تصبح لغة اللاوعي واللاتهذيب هي السائدة، حتّى ليأتي اليوم الذي تصبح فيه الكلمة الجميلة مسبّة! أنا لست ضدّ موسيقا الرّاب، ولست معها، أنا أحب القديم، والجديد، والمستورد، والمستحدث من الفنون، وأُقبل عليها وأرفض أي محاولة لتقويض أية حالة فنية أو ثقافية مهما كانت متمايزة عن المجتمع وعن أعراف وتقاليد الثقافة الغابرة، ولكن قبول هذا الكيل من الشتائم المقفّى على إيقاعٍ رتيب ممكن أن يحدث في الخفاء، ولكن في العلن الكل سيتبرّأ من هذه الألفاظ ولن يجرؤ على غنائها، أو حتى تداولها إلّا كنوع من الفضول، أو الدعابة أو بحجة التمايز عن الآخرين فنياً “والانفتاح على الغرب”.

وحتى تهذّب أغاني الراب من ألفاظها قليلاً دون أن نتعدى عليها أو تتعدّى علينا، تبقى هذه الموسيقا المستحدثة حالة جميلة ببساطتها وخفتها وشبابيتها ومحاولتها الجادة استحضار روح ثقافة أخرى غريبة عنّا ومحاولة تهجينها بما يتناسب مع قواعد بلدنا وإن شطّت قليلاً عن الأخلاق العامة وأصبحت أكثر غضباً ونزقاً، وكالت الشتائم يميناً وشمالاً فهذا لا يفسد في الود قضية، ولا يدعو لإلغاء أو التّقليل من شأن هذا النوع الموسيقي الذي وإن بدا اليوم محدوداً ومجهولاً، لكن لا بد له في المستقبل القريب أن يتجاوز هذه الفجوة وحالة الذهول الثقافي التي أحدثها مع انفتاح أبواب العوالم كلها على بعضها، وانبهار الشباب العربي باللون الغربي ومحاولة تقفي أثره وتقليده بكل شيء، تقليد يبدو سهلاً مع هذه الهجرة والنوافذ الحاسوبية والهواتف المحمولة التي تجعل وقف حالة الإبهار هذه شبه مستحيلة.

بثينة أكرم قاسم

> وعلى أمل أن تنجو موسيقا الراب السورية من فداحة التشرد والتشرذم الذي يطبع موسيقا الراب الأمريكي ،وتصبح حالة فنية تليق بالمجتمع السوري ككل وجديرة أن تعبّر عن كل مايعيشه هذا المجتمع بكل أطيافه دون قدحٍ أو ذمٍّ يؤذي أخلاق أذاننا حتى ذلك الوقت سنظل نعتبرها موسيقا تستحق أن نقف عندها ونحاول أن نستمع لها ولكن بلا انصهار أو انسلاخ كامل.