ثقافة

“الدراما التاريخية” قراءة جديدة لمعطيات الماضي أم تشويه وتزييف لحقائقه

شهدنا خلال السنوات الماضية الحضور الكبير الذي حققته الدراما السورية سواء على مستوى الشكل أو المضمون، فقد جهدت لتقديم ما هو متكامل، وكان التنوع من دراما اجتماعية وكوميدية وصولاً إلى التاريخية سبيلها إلى ذلك، وربما الأخيرة هي الأكثر إشكالية، كونها تبحث في قضايا وحوادث ألقى النسيان ظلاله عليها، وقد لا نجد لها ذكراً إلا في الحكايات أو بعض المراجع التاريخية.

وقد اتهمت الكثير من الأعمال الدرامية، التي قُدمت تحت مسمى دراما تاريخية، بالإساءة إلى التاريخ ووقائعه، وقدمت صورة بعيدة عن الحقيقة، الأمر الذي دعانا للتوجه بسؤالنا إلى عدد من المعنيين بالإنتاج الدرامي من ممثلين ومخرجين ونقاد هل من مهمة الدراما تقديم الوقائع التاريخية كما هي، وإلى أي مدى يحق لكتّاب الدراما تقديم قراءتهم الخاصة مترافقة مع الخيال الذي لا يمكننا نكران أهميته في الدراما، وإلى أي درجة تنطبق تسمية “دراما تاريخية” على ما يُقدم في ظل هذه المعطيات.
قراءة التاريخ
بعض الأعمال الدرامية تجافي الحقيقة، وهو مطب يقع فيه الكثير من الكتّاب والمخرجين والمنتجين كما يرى الممثل القدير عبد الرحمن أبو القاسم، فيقول: هناك أعمال تاريخية بحتة يدخل فيها عامل التشويق لتدخل عقول وأذهان المتلقين، لكن ليس على حساب الحقيقة التاريخية، فنحن بالأساس شعب “حكائي” وليس مطلوباً من الدراما أن تقدم الحياة كما هي عليه، فهناك دوماً تدّخل من المخرج أو الكاتب في بعض الأحداث التاريخية من أجل التشويق والإثارة، وتقديم الأفضل للمتلقي على ألا يسيء ذلك التدخل للمعطيات التاريخية. وبما أن التاريخ عبارة عن حكايات متعددة لفترات مختلفة، فبقدر ما نستطيع تقديم هذه الحكايات بحقيقتها، وبأسلوب مشوّق، بقدر ما يلتقطها المتلقي. ويتابع ابن الرومية في الجوارح: لا أجد في هذا الزمن إلا القلة من الذين يحسنون قراءة التاريخ، لذلك نحاول في الدراما التاريخية أن نعيد صياغة التاريخ بصورة تقرّب الأحداث إلى أذهان المشاهدين، وهنا باعتقادي نساهم في إعادة قراءته من جديد بطريقة مختلفة، خاصة أننا نعيش في ظل تطور يستطيع المشاهد فيه بكبسة زر أن ينتقل من محطة إلى أخرى، ويترك متابعة أي مسلسل تاريخي والخيارات مفتوحة أمامه، لذلك على الدراما تقديم الجميل والممتع والحقيقي إلى حد ما.
وثيقة
ولايستطيع أحد إنكار حكايات الشرف والبطولة التي يحفل بها تاريخنا- يتابع أبو القاسم- لكن تبقى المشكلة كيف نصنعها ونقدمها، لذلك علينا مواكبة التاريخ والسير معه خطوة بخطوة لنصل إلى الضفة الأخرى. فمثلاً عند مشاهدة مسلسل “صلاح الدين” يتم التفاعل معه ومع بطولاته، وذلك محفز يدفع الشخص إلى قراءة التاريخ عبر صفحات الكتب، وهنا يتم الكشف إلى أي مدى كان العمل مجافياً للحقيقية أو أنه يسير معها، وعند التحدث عن اختلاف المراجع في تقديم وقائع التاريخ –يؤكد أبو القاسم- أننا نختلف، ونحن ما عدنا نصنع التاريخ بل أصبح صوراً وعِبَراً. إن جزءاً من الأعمال الدرامية التي تقدم في هذه المرحلة الصعبة على الأمة والشعب في سورية، ستكون بمثابة وثيقة تاريخية لأنها نقلت بحرفية، وكان للمادة الفيلمية  فقط حق التدخل لتكون شيقة، وهذه الأعمال ستكون وثيقة سيقرؤها أبناؤنا وأحفادنا وبالتالي يجب أن تصان، لكن بالمقابل هناك جزء من الأعمال يجافي الحقيقة، وفيها الكثير من الخيال والكذب أحياناً من أجل تقديم مادة درامية فقط لا أكثر.
ظلت في استحقاق الاسم
إن أي عمل درامي مهما كان تصنيفه سيقوم على شيء من استثمار الخيال، هذا ما يؤكده الناقد أحمد علي هلال الذي يرى أن الدراما التاريخية تقف على مستوى التأويل، وفحص مرجعيته، ومن المحتمل أن تتجاوز مستويات الذائقة الجمالية ومحاكاة الواقع، لكن كيف تكون هذه المحاكاة واعية أو مجانية لكي تبدو مجرد توسل لاستعادة التاريخ أو إحيائه وردم فجوات محتملة؟. ويتابع: تستدعي تسمية دراما تاريخية التساؤلات لما تثيره من إشكاليات تنفتح على أشكال العلاقة مع التاريخ نصاً وشخصيات وحوادث وفترات، أي حول مرجعية تلك الأعمال، وبمعنى أخر: ما هي درجة صحته؟.
إن المعيار في دقة التسمية –يضيف هلال- لن يخفف من مساءلة المنتج الدرامي على أن العمل استثمار من خلال خلق الحوافز، فللتسمية استحقاقاتها المثيرة على مستوى المقولة والخطاب، ويجب على العمل سردها لتكون مرجعية درامية قابلة للتأويل والمحاكاة الواعية، إذ ثمة أعمال تتخذ من التاريخ قناعاً، أو تذهب لنوع من “الفانتازيا” المبهرة في طبيعتها إخراجاً وتصويراً، وتتفاوت مرجعية تلك الأعمال في رؤيتها، والأمثلة كثيرة في هذا الاتجاه، لكن تجدر الإشارة -كما يرى هلال- إلى أن الدراما التاريخية السورية والعربية ظلت في استحقاق الاسم وجعلت “الوثيقة” في مقابل التأويل المنتظر دون أن تخفف من شرطي المتعة والفائدة، ومثال على ذلك “الظاهر بيبرس” و”ربيع قرطبة”، و”الموت القادم إلى الشرق” إن طبيعة الأعمال التاريخية تستوجب النظر إليها كأعمال خيالية في المقام الأول، وهذا يعني أنه يحق للدرامي تقديم رؤيته الفنية والخيالية دون الإطاحة بالسياق والدلالة.
مهمتها ليس التأريخ
وبما أن الإسقاط على واقع بعينه أو تمثيلاً له ينبغي ألا يتجاوز فيه الكاتب الدرامي والمخرج مستويات الذائقة الجمالية، أي ليس من مهمة الدراما التأريخ بل إيجاد المعادل الجمالي والفكري لأحداث تاريخية معينة واستبطانها من جديد دون أن تقع في التحريف والمباشرة بما يجعل من التناول أقرب للحقيقة، يجيب هلال: يحق للكاتب وضع رؤيته لتكون مخاطبة للواقع وأقرب إلى حقل التلقي، وتوازي هذه الرؤية وجداناً جمعياً يحرره الوعي بأن التاريخ في وقائعه قابل للتأليف، وبث منظورات لا تعصف بشرط الفن أو تنتهك الذائقة بتاريخ مضاف في ما حدث أو لم يحدث على الإطلاق، وما يذهب إليه النقاد بالقول “عشق الروايات التاريخية” أجده قابلاً لجعل العمل الدرامي التاريخي في مواصفات تفتح المجال لقراءات تعيد إنتاج الماضي لكن بانفتاح يعاين حضور الفن في أسئلته الشاقة والمثيرة.
وينهي الناقد هلال قائلاً: الدراما التاريخية في راهنها ليست توثيقاً بقدر ما هي محاولة استشراف للواقع والماضي والراهن، بمعنى التجاوز أو الاستمرار، هي جدلية التلقي بما تثيره ثقافة المنتج الدرامي التاريخي، جدلية التوثيق والاستشراف والباقي منها في الذاكرة من يثير الأسئلة الحقيقية، لا أن يُكتفى بالإبهار والإسقاط المجاني.

الإنتاج الدرامي رسالة
وإذا أراد السيناريست أن يكتب نصاً لمسلسل يتناول حقبة زمنية معينة من التاريخ، فمن البديهي أن يختار شخصياته الدرامية من الشخصيات التاريخية الحقيقية، ومن شخصيات واقعية شبيهة بتلك التي وُجدت في تلك الفترة، ثم سيختار من الأحداث التاريخية ما يخدم القصة، بالتوازي مع مجموعة من الأحداث المتخيلة التي تفرضها الشخصيات الواقعية المتخيلة، باعتبارها حوافز سردية تمدّ الحدث وتشعبه، هذا ما بدأ به  المخرج الكبير غسان جبري إجابته عندما طرحنا عليه سؤالنا إذ يقول:  البعض اتهم الدراما التاريخية بأنها إساءة ولا يجب تسميتها بهذا الاسم. في الواقع، تختلف المعلومة بين الكثير من الوثائق، والمجال متاح أمام الكاتب لتقديم رؤيته الدرامية في الأحداث التاريخية بالإضافة إلى عنصر الخيال المطلوب بالتأكيد. وفي مقارنة بين ما كان سابقاً وما يحدث اليوم يجيب: في البداية كانت هناك خطوط رئيسية لإنتاج عمل تاريخي ما، ومنها الأمانة التاريخية التي من المفترض أن تكون العنصر الرئيسي في العمل، ولا بد من تسليط الضوء على الأبطال الحقيقيين والرموز التاريخية بأمانة، ولكن تبقى حرية التصرف باختيار ممثلي الصف الثاني من العمل دون خرق الأحداث، لكن يمكن تقديم وجهة نظر الكاتب مع الاهتمام بالأمانة التاريخية.
أولادنا والتاريخ
نحن بحاجة اليوم إلى تجذير أولادنا في التاريخ أكثر من أي وقت مضى، وأن تصل الدراما التاريخية إلى كل الشرائح. يوضح جبري هذه الفكرة قائلاً: نظراً للهجمة التي نتعرض لها، لا بد من قرار تتشارك فيه أكثر من جهة  للحديث عن تاريخ سورية، وتكليف كتاب لوضع المادة الأولية التي يجب أن تكون عبارة عن وثيقة أو دراسة تتألف من الأحداث المهمة التي جرت في المرحلة المختارة، دون إهمال الحوارات غير السردية بالإضافة إلى الدراما، في النهاية يمكن أن أقول أن كتابة الدراما التاريخية ليست بالسهلة، لكنها ليست مستحيلة.
وعن رأيه بالأعمال الدرامية التي قدمت في هذه الظروف، وعن مدى إمكانية الاعتماد عليها لتكون وثيقة تاريخية لهذه الفترة العصيبة يقول جبري: نحن بحاجة لعدد كبير من المسارح ودور الثقافة المفعّلة بشكل جيد لتقينا هذه الهجمة الرجعية بالعقل والفكر والأعمال الدرامية، ويجب نزع هذه المحرمات، والتفكير في إسعاد الناس، وتعليمهم وتربيتهم، والدراما التاريخية كونها عملاً فنياً يتحدث عن الماضي فإنها شاءت أم أبت هي خاضعة لمعطيات الحاضر المحمّل بكل إشكالياته أو مشكلاته ليصنع قراءة جديدة وحاضرة وواقعية عن التاريخ.
جمان بركات