ثقافة

لم تأت الساعة الموعودة..اقتربت ساعة أخرى وحضرت ساعة ثالثة

يتصدر مشهد المتراكم من المطبوعات المرشحة للإتلاف كتيب بلون أزرق في أعلى غلافه اسم بطرس بطرس غالي. إنه مفكرته من أجل السلام، تلك المفكرة التي لم يكتب لها أن تنجز ما هدفت إليه. تتلوها رزمة جرائد عن الأمم المتحدة في الصومال. بعدها تطل رزمة ثانية عن الأمم المتحدة ويوغوسلافيا السابقة. وتتوالى رزم من الجرائد تغطي أزمات العالم التي تدخلت الأمم المتحدة فيها، يزيحها، هنا مجلة الفورين بوليسي الشهيرة. في عدد صيف 1993 مقالات عدة وضعت على بعضها علامات تدل على أهمية الاطلاع عليها. يقاوم الرغبة في الاطلاع ثم يستسلم للإغراء. مقال عن تركيا بعد أوزال. تركيا التي نعاني منها الأمرين منذ 2011. تأخذه القراءة إلى أبعد من الأسطر الأولى لكنه يتوقف، ليس من أجل القراءة عن تركيا أنت أمام هذا المتراكم من المطبوعات. ولتتذكر: أطلقت منذ بضعة أشهر فكرة الحفاوة بمناسبة انقضاء قرن على التحرر من الحكم التركي في تشرين الأول من عام 1918، أسميت المناسبة “مئوية الدولة السورية”. ولتتذكر: عليك إيضاح فكرتك من خلال محاضرة اقترب موعدها. لن يفيدك المقال عما بعد أوزال.
يزيح المجلة. يتحرر من عبئها. ما إن يفعل حتى تظهر أمامه ورقة ذات هيبة من سفارة باكستان بدمشق، مذكرة عن اجتماع لوزراء خارجية دول منظمة المؤتمر الإسلامي حول مسألة البوسنة. انظر: ثبتت على المذكرة بدبوس دعوة عشاء لتناول الطعام مع بعض السفراء في دمشق، وعلى البطاقة بضع ملاحظات بخط اليد عن انطباعات شخصية نتيجة تبادل أحاديث المجاملات المعتادة على المائدة.
حلم ذات يوم بإدارة مركز للأبحاث، لخص مغزى حياته في جهد منتج يصلح من خلاله العالم عبر مركز للأبحاث يضيء للبشرية طريقها إلى سلم دائم هو هاجس الفلاسفة الدائم. تراكمت بين يديه المعطيات: كتب ومجلات وصحف ومذكرات ذات توزيع واسع أو محدود. ملاحظات بخط اليد عن هذا الموضوع أو ذاك.أمل ذات يوم أن يتفرغ لها، أن يحيلها إلى مقالات وأبحاث وكتب صنفها، أو بالأحرى راكم بعضها فوق بعض في محاولة أولى لتدجينها. أربعون عاما ونيف، بل قل خمسون عاما، وهو يقوم بهذا العمل. سيكون هناك مركز للأبحاث وهو يديره، ويوزع على الباحثين مما عنده ويرشدهم عبر مسالك البحث الوعرة. لم يمل، لم يغادره الحلم. إلا أن الساعة الموعودة لم تأت. لاح له في يوم أنها أتت، لكنها لم تأت. لاحت له ثانية. بدا له في يوم ثان أنها أصبحت في قبضة يده. أفلتت. طاردها في يوم ثالث، لكنها لوحت له مبتعدة.لم تسمح الظروف. لم يولد المركز المشتهى. بقيت متناثرة الأفكار التي كان على المركز أن يرعاها ويصلح من خلالها العالم. لم تأت الساعة.
وفي الأثناء اقتربت ساعة أخرى. يتقدم صاحبنا إلى الثمانين. مطبوعات متراكمة ومتراكمة معها أوراق شخصية وملاحظات ومذكرات كلها كان من المفترض أن تتحول إلى ما يغني عقول الناس. لم يحصل ولن يحصل. اقتربت ساعة أخرى لا احد يدري موعدها الدقيق. واقتربت معها ساعة أخرى، بل حضرت. هي ساعة إتلاف ما تراكم من مواد أولية لعمل لم يحصل. لا بد من التقدم. لا بد من إنهاء هذا المتراكم الميت ليغدو المكان متألقا لامعا صالحا لكي يحضن أحلاما أخرى. يشعر بالراحة إذ يتلف وهو يستعد للراحة الكبرى. وليس في الأمر ما يثير: تلك سنة الحياة، ولو دامت لغيرك ما وصلت إليك، كما يقال.

د. جورج جبور