ثقافة

خذْ كتاباً واركضْ

موت القراءة، موت الكتابة، موت المؤلّف، موت الفنّ، موت الّلغة، نهاية العالم، نهاية التّاريخ، دنوّ يوم القيامة والحساب، اندحار الأحلام والطّموحات. وأشباهها الكثير من عبارات التّيئيس وإطلاق الكلام على عواهنه، نراها تعمّ الخطاب الثقافيّ المستقيل من مهامه، سواء، ما قبل أو خلال مرحلة التغيّرات الجوهريّة والحروب العاصفة، والزّلازل الاجتماعيّة. وخصوصاً لدى المجتمعات المأزومة بنيويّاً وتاريخيّاً وتعاني من فراغ فكري رهيب، كمجتمعاتنا.
أقول، إنّ هذه الدّعوات السّلبيّة للفرار من الحياة والتّاريخ ومن كلّ أشكال الفعل الإيجابي المبشّر بنهضة الكائن، ليستْ حكراً على زمننا الحالي المتردّي القيم والأفكار، بل قالتها وروّجتْ لها أبواق ناعبة كثيرة، وبأشكالٍ مختلفة على مرّ العصور، ناشرة كلّ ما من شأنه أن يوهن العقول والطّاقات البشريّة المتحفّزة للنّهوض من قمقمها، فلا بأس أن نأخذها كمصطلحات مجازيّة، تتوفّر على شيء من الحقيقة، إذْ مع انهيار الأنظمة الشموليّة و”اليوتوبيات” المثاليّة، تتعرّى المجتمعات كما الأفراد من أوراق توتها الأخيرة، محاولةً البحث عن ملاذاتٍ وهويّات أكثر واقعيّة، تجعلها تنتمي لروح العصر، فتكثر حينها الدعوات الانتحاريّة، إذا ما قورنت بتلك الدّاعية للمراجعة والمساءلة والبناء على أسس جديدة تنبثق من خصوصيّات مجتمعاتها، فالتّغيير الحاصل، هو قانون طبيعي لدورة التاريخ المتعاقبة، وعمليّة تنظيف ضروريّة لرحمه، سواء بعد ولادة مشوّهة، أو بعد تعسّر ولادة جنين عنيد، ويترافق ذلك عادة، مع تفكّك المنظومات المغلقة لعدم قدرتها على الإجابة على تلك المستجدّات.
باختصار، هي صيرورةُ الجدل التّاريخي اليانعة. يقول فيلسوف الأمل الألماني أرنست بلوخ: “العقل لا يمكنه الازدهار دون الحلم، والحلم لا يمكنه النطق دون العقل”. ويرى في كتابه “مبدأ الأمل”  بأنّ بذور الأمل لن تموت لأنّ كلّ الحالات تنطوي على نقيضها المطلق. وهاهو “إريك فروم” الذي رسّخ البعد الإنسانيّ الاجتماعي لعلم النفس، يؤكّد بأنّ التّحليل النّفسي هو وسيلة لفهم الذّات أكثر ممّا هو وسيلة علاج وحسب، داعياً لتعلّم الحياة كفنّ. وعناوين كتبه عالية الدلالة، تشير إلى ذلك:”فنّ الحب- فنّ الإصغاء” الخ.. يقول: “إنّ وظيفة العقل هي ترقية فنّ الحياة”. أمّا الفيلسوف الفرنسيّ “ميشيل أونفري” فيدعو إلى تأسيس فلسفةٍ شعبيّةٍ تستند إلى المذهب الأبيقوري حيث اللّذة هي الخير الأوحد في هذه الدنيا والألم هو الشّرّ الأقصى، مركّزاً على التّمتّع بالأمور الحسيّة والفكريّة بهدف الوصول إلى السّعادة المنشودة. أي أن نشرب حين نعطش، ونأكل حين نجوع، وأن نروّح عن الفكر بالتّنزّه بين الأشجار في الهواء الطّلق ونستمتع بالطّبيعة والموسيقا اللّتين تعيدان لنا نقاءنا الإنساني. يقول في كتابه “فنّ المتع”: المتعة الفلسفيّة التي أدعو إليها تعني الزّهد والتّحرّر من طغيان مجتمع الاستهلاك”. وباعتقادي الشّخصي، أحياناً يكفينا التّصدّي للانهيارات الشّديدة الحاصلة، في لحظةٍ ما، أن نوقف انحدارنا الذّاتي عند “الدّرجة الصّفر”، لأنّه يشكّل إنجازاً بحدّ ذاته. يقول الفيلسوف “إميل سيوران” صاحب كتاب “المياه كلّها بلون الغرق” ـ الذي يبدو للقراءة المتسرّعة عنواناً يائساً “كفّوا عن سؤالي عن برنامجي: أن أتنفّس، أليس برنامجاً كافياً؟”. ولعلّ فكرة أستاذه  الفيلسوف “نيتشه” الدّاعية إلى خلق كائن استثنائي، يتفوّق على ذاته، في كتابه: “هكذا تكلّم زارادشت” تأتي ضمن هذا السّياق أيضاً. وبالعودة لعنواننا الرئيس “خذ كتاباً واركض”، فإنّي أرى به، الدّعوة الأكثر إشراقاً وضرورة في زمن الانحدار والتّجهيل والتيئيس وسيطرة ثقافة الاستهلاك. يقول الناقد والروائي “إيكو”: الاعتقاد بنهاية شيء ما حالة ثقافية أنموذجية. منذ الإغريق واللّاتين ثابرنا على الاعتقاد أنّ أسلافنا أفضل منّا. أنا مستمتع ومهتمّ بهذا النّوع من الرّياضة، الذي تمارسه وسائل الإعلام الجماهيرية بشراسة متنامية. عن نهاية الرواية، نهاية الأدب. نهاية معرفة القراءة والكتابة في أمريكا، ولم يعد الناس يقرؤون! والمراهقون لا يفعلون شيئاً إلا ألعاب الفيديو!. بينما حقيقة الأمر، أنّه في كلّ أنحاء العالم توجد آلاف المخازن المليئة بالكتب والمليئة بالشبان. لم يصدف قطّ في تاريخ الإنسانيّة أن كان هناك هذه الكتب الكثيرة وهذه الأمكنة الكثيرة لبيع الكتب، وهؤلاء الناس والشباب الذين يزورون هذه الأمكنة ويشترون الكتب”، فأنا أتلقّى مجموعة ضخمة من الكتب كلّ يوم، روايات، طبعات جديدة من كتب أملكها، أملأ كلّ أسبوع بعض الصّناديق وأرسلها إلى جامعتي، حيث توجد طاولة كبيرة مع عبارة تقول: “خذ كتاباً واركض”.
أشجّع الشّبان دائماً على قراءة الكتب، لأنّها طريقة أنموذجيّة لتطوير ذاكرة كبيرة وشخصيّة متعدّدة نهمة”. إذن، فليجد كلّ منّا الطريقة في تحفيز نفسه والآخرين على الفعل الإيجابي عبر التّنقيب في حديقة الحياة عن كنزه الخاص، وأسطورته. مقتدياً بذلك العامل الكولومبي “خوسيه ألبرتو غوتيريز” الذي ذكره الرّوائي، الصّحافي “خليل صويلح” بإحدى زواياه، قائلاً: بأنّه أسس مكتبة ضخمة تضمّ آلاف الكتب، شعراً، رواية، قصصاً، كتباً تعليمية. فمن خلال عمله كسائق لإحدى سيارات القمامة، بدأت تتجمّع لديه عناوين كثيرة لكتّاب ومشاهير العالم، ابتداءً من “آنا كارنينا” لتولستوي، إلى “الإلياذة” لهوميروس إلى الأمير الصغير لأكزوبري، إلى روايات ماركيز الخ.  حيث جعل قسماً من بيته مستودعاً لها، للإعارة المجانيّة، وتفرّغتْ زوجته الخيّاطة لترميمها، يقول: “ربّما هي المكتبة الأولى في العالم التي تقدّم الكتب مجّاناً لمن يأتون لاستعارتها” وقد ذاعت شهرة مكتبة “قوّة الكلمات” في كلّ أرجاء القارّة الأمريكيّة، وشاركتْ في معارض كثيرة فبدأت الكتب تنهال عليه من جهات مختلفة، ولم يعد مصدره الوحيد هو النّفايات. ليس المطلوب منّا أن نصبح كلّنا فلاسفة، ولكن ألا  نستطيع الارتقاء إلى مستوى وعي عامل تنظيفات، اسمه  “خوسيه”؟.
أوس أحمد أسعد