ثقافة

الحرية أو الموت.. خيار تولستوي الأخير

هذا العنوان لا نقصد به الرواية التي تحمل الاسم نفسه للروائي اليوناني الكبير نيكوس كازنتزاكي، وإنما نتلمس من خلاله سيرة الأيام الأخيرة لعملاق آخر سبق كازنتزاكي إلى الحياة والشهرة، إنه الروائي الروسي الكبير ليو تولستوي،الذي قرر أن ينطلق إلى الحرية بعد أن كاد ينهي خريف عمره.

ولكن أي حرية كان يبتغيها هذا الذي عاش اثنين وثمانين سنة من الرفاهية والثراء وفي ظل شهرة واسعة قلما حظي بها نظير له في تاريخ الأدب العالمي، كانت مقومات الحياة السعيدة ملك يديه إضافة إلى حياة أسرية مستقرة، فشهرته كانت مدوية ومصحوبة بحب كل من عاصره ابتداءً من أصغر فلاح وانتهاء بالقيصر، فالقيصر نيقولا الثاني كتب إليه تحت ضغط أدبي من زوجته وأبنائه يهنئه بعيد ميلاده الثمانين ويغبطه على أن الشعب اعتبره أباً ثانياً له. هذه العبارة “الأب الثاني” لا تخلو من مضمون الغيرة ومن اللقب الذي منحه الشعب طوعاً لكاتبه العظيم تولستوي ملمحاً إلى أن القيصر نفسه هو الأب الأول.

وفقاً لهذه المعطيات عن أي حرية نتحدث وما الذي كان ينقصه ليفر من هذا العز إلى لا مكان طلباً للحرية، صحيح أنه عاش قصة حب حقيقية مع زوجته صوفيا التي يكبرها بستة عشر عاماً، عاش معها قرابة الخمسين عاماً من الود والوفاء.

لكنه في ليلة  قرر أن يغادر لم يستطع أن يغفر لصوفيا سلوكها فقد شاهدها تدخل ليلاً إلى مكتبه تفتش في أوراقه وتتجسس على أفكاره، في الحقيقة حدثت بعض المنغصات في حياتهما فقد تخلى عن أملاكه للفلاحين الذين كانوا يعملون عنده في وقت لم تستسغ صوفيا هذا التصرف. فأخذت تعمل على مشاكسته ومعارضته في كل ما يفعل حتى أصبح يراها وكأنها سجانة له تريد أن تفرض عليه آراءها وكانت في الآونة الأخيرة تحدد له من يجب أن يقابل أو لا يقابل من أصدقائه وتلامذته بل كانت تريد أن تعرف أفكاره الروائية وتطلب أن يكون لها حق الإقرار أو الرفض، نعم، كانت تحبه ولكنه كان حباً للتملك لا حباً للتضحية.

في عشية رحيله كتب إلى صوفيا رسالة وعزم أن يستودعها لدى ابنته ساشا، ساشا المحببة إليه و كاتمة أسراره ومما جاء فيها “أعرف أنك تحبينني وأنني أغلى وأثمن شيء في حياتك، لماذا إذن تصرين على التجسس وتقرئين كل ورقة في مكتبي” ثم يكتب أيضاً وبشيء من المرارة “لقد عشت طويلاً جداً أكثر مما يجب اثنان وثمانون عاماً ومن المحزن أن أضطر إلى الفرار من حبي الوحيد من صوفيا أم أولادي وحبيبة قلبي، لم أعد أحتمل محاولاتها الدائبة للتجسس على كل خطرات فكري، وبات إحساسي بضرورة الفرار إلى المجهول يتزايد إلى الحد الذي يدفعني إلى التنفيذ السريع، لقد غدا وضعي في هذا البيت غير محتمل يا صوفيا، ولم يعد في قدرتي ممارسة الحياة اليومية في هذه الرفاهية التي تحيط بي، وبات الثراء يخنقني لم يعد لدي مزيد من الصبر” كانت الرسالة عتاباً رقيقاً لصوفيا التي أهملته وغدت تقضي يومها وجزءاً من الليل في تفقد شؤون المزرعة والفلاحين، والإشراف على المخازن ومحاسبة تجار الغلال ومراقبة الخدم ويضيف: “حتى صار منظرك يا صوفيا وأنتِ تسيرين متنقلة بين أرجاء المزرعة والقصر وسلسلة مفاتيح كل الأبواب معلقة في وسط حزامك، وكأنك أشبه بسجانات العصور الوسطى، لا تريدين أن تدركي أني أريدك أن تكوني إلى جانبي ونحن في هذه المرحلة من العمر”.

وفي نهاية الرسالة أبلغها عزمه على الرحيل ورجاها ألا تبحث عنه وشكرها على ما منحته من الحياة الكريمة والسعادة، وتوسل إليها أن تسامحه على ما ارتكب من أخطاء في حقها مثلما يسامحها على إغضابها له ومعارضتها قراراته.

في الصباح بدأت الرحلة، رحلة النهاية والمحنة: كانت وجهته إلى محطة القطار برفقة طبيبه الخاص قبل بزوغ الفجر لم يكن لديه وجهة محددة، فقط كان يريد الهروب وشيخ طاعن في السن وبمثل هذا العمر ضعيف مريض يتنقل في عربات الدرجة الثالثة كي لا يتعرف عليه أحد، ولم ينفعه ذلك فهو الشخص الأكثر شهرة في أنحاء روسيا، يشتد عليه المرض ويكابر لن يعود إلى بيته ولن يستقبل صوفيا مرة أخرى. تزداد خطورة وضعه الصحي في محطة القطار ويجيء الناس من كل أصقاع روسيا ليطمئنوا على صحته، لم يستقبل في ساعاته الأخيرة سوى ساشا ابنته الحبيبة، أما في اللحظات الأخيرة فلم يعترض أن تدخل صوفيا إلى غرفته وعندما دخلت نظر إليها بحنان وانكبت على يديه تستسمحه ولكنها كانت قد تأخرت عن الموعد لأنه كان قد سبقها إلى موعد آخر.

علا أحمد