ثقافة

صُنع في سورية

لحظتان فارقتان، لعلهما كثافة الزمن السوري إذ إنه ليس من المصادفة بمكان أن ينتهي فيلم (رد القضاء) لمخرجه المبدع نجدت إسماعيل أنزور، بوصول الجيش العربي السوري إلى سجن حلب المركزي، لتلتقي حاميته بهم محرراً من رجز الإرهاب، تنجح الدراما في جعل هذه الأسطورة تتعدى لأساطير حية في لحظة خارج سياق الفيلم، لحظة واقعية بامتياز، حينما التقى بواسل الجيش العربي السوري بأفراد حامية دير الزور الصامدة وكسر حصارها، ما يحيلنا إلى القول مجدداً بأن متخيل الواقع ما يزال في موازاة متخيل السينما، بل لعل الواقع ذاته بوصفه خزاناً ومجمراً للحكايات السورية التي تتجاوز الليلة الألف سرداً وروياً وعيشاً ثيمته الرئيس هو قوة الروح السورية، والتي ستنضاف لها قيمة مضافة ستظل من العلامات الفارقة في الوعي الجمعي السوري، حينما تكون الرياضة بمجازها الكبير وبأهدافها الأكثر تماثلاً بأهداف الميدان، وما نعنيه هنا تأهل منتخبنا السوري لنهائيات كأس العالم في موسكو عام 2018.

مضى العيد بمعانيه في الفداء والتضحية، لكنه عاد بمقام جديد لتصبح كل أيامنا السورية أعياداً للفداء والفرح واستعادة الوعي، الوعي بأن سورية القادرة على صنع غدها، تنهض كل دقيقة لتضيء ليل العالم بعديد كواكبها ونيازك صحوها، تنهض بشهدائها الذين كانوا سطور فجرها الحامل لنهاراتها المعلنة، الطليقة، ليست إذن من مفارقة تُروى، بل هي الضرورات، ضرورات التاريخ ليُستعاد ويرسم غير أفق لحكاياتنا المفتوحة على المطلق، حكايات النصر ونشيده الكثيف في الأرواح والكلمات، وفي قلب اللغة البصيرة وفطنتها في زمن التحولات والانعطافات التي يشهدها العالم.

هكذا هي قيامة الروح وتجلياتها في أكثر من زمن خلاصته السورية من جهرت بترويض المستحيل، وحملت شعلة الأولمب من زمن إلى زمن، هي خلاصة الكينونة السورية وانبعاثها لتحملها أرواح الشهداء والشهود إلى التاريخ مُستعاداً، كل شبر من الأرض وكل زاوية اتكأ عليها القمر، وكل خفقة حلم ساهرتها القصائد، والمرويات، وقصائد الميادين إبداع يتجاوز ويهب للغات كل أسراره، لتحكي في وضوح العبارات عن أساطير سورية مازالت تستحق الحياة، ليست تلك ثقافة بشر حالمين فحسب، بل إنها ثقافة الحياة عندما تكون أكثر من حياة بخيط دم متصل بكل الينابيع، حيث يرتجل الفرح سوريته من أجل فطنة المعنى، ومن أجل أن يكون الجمال عقداً يليق بأرض مشبعة بالبطولات، وبميراث ما أسسه الأوائل من وعي في الوعي طارد للغزاة الطارئين على التاريخ والجغرافيا واللغة.

يتعافى الجسد السوري، تتعافى الجغرافيا ويصبح درس التاريخ، أولى أبجدياته أن النصر شكل حياة، ليس عادةً بعينها، والنصر بكامل أقماره يجترح صحواً نهائياً، ويبرع في اشتقاق غير معنى لمن ظلت مراياهم الشمس، ولمن رأوا فيها سيرورة الروح وكيف تبني في البدء الإنسان، وبأصابع رؤيته يشيد العمران، فكم من حياة سوف تأتي طاعنة في الحلم.. ذلك هو قدر السوري في صيروراته المدهشة كي لا يجف حبر الصلاة، ويظل من يتوضأ بجمر العشق على الطريقة السورية الخالصة، واقفاً كأشجار الوطن لا تعصف بها الريح بل تزيد صلابتها، وتلهب نسغها الأخضر.. هي أرواح من ظلوا هنا حراساً لحلم ما زالت مهنته الحلم، صُنع في سورية ذلك هو الفرح بقوس قزح لا ينتهي، ولعله يبتدئ بكل خفقة نرجسة، فاللحظة السورية هي من تصنع الفارق في ثقافات العالم، وبذلك يطمئن الكلام على أن ما هو قادم هو ما يليق، وأن يكون النصر بعينه هو صناعة سورية بامتياز، هو الاكتمال لمن توهموا النقصان، وهو حجر الضوء الذي يرجم القبح المستطير، وفي المبتدأ سورية أول النور وميلاد الحضارة.

أحمد علي هلال