“حرريني من قبضتك” سيرة تجربة شعرية
طلال الغوار شاعر عراقي، هادئ، وقور، يرقب من وراء زجاجة نظارته ما يدور حوله، متفحصا كأنه يستكشف المكان والناس، لا تثيره الضوضاء بقدر ما يثيره الموقف، يكتب بعاطفة جياشة تشعر من خلال قصائده أنه يعيش الحب وهو يحمل فوق هامته 60 سنة لم تنل من قلبه وإحساسه، هيمن الشعر فيها منذ تسعينيات القرن الماضي حين أصدر ديوانه الأول “الخروج من الأسماء” يريد من خلاله القول أن تلك الأسماء لا تعنيه بقدر ما تحمله من معنى، وحين تتبعت تجربته الشعرية وجدت لها جذورا سبقت إصداره لديوانه الأول متنقلا بين العمود والتفعيلة والنثر، وقبل دخوله الجامعة وحصوله على شهادتها في اللغة العربية، حاول أن يؤسس لخطاب توافقي هو الحب بمعناه المطلق فكتب عن المرأة، الوطن، الناس، وما تعنيه تلك المسميات وارتباطها به، يقول في “حرائق الكلمات”:
حبيبتي تقول: “أنا لا أحبها/لأن الطفل النائم في حنجرتي/لم يعد يشعل الحرائق/في الكلمات”
حبيبتي تقول: “أنا لا أحبها/لأن نظراتي إليها/لم تعد تعطل الزمن”
حبيبتي تقول: “أنا لا أحبها/لأنني دائما أهشم الصباحات/بمطرقة من شرودي”
في هذا النص يقترب الشاعر بنا من ما يعرف بعملية إنتاج المعنى، وهو أسلوب رمزي حداثوي يتشكل في مرحلة جنينية متقدمة تضمرها الذات سار عليها عددا من الشعراء الغربيين، منهم الشاعر الأمريكي الذي رحل عنا مؤخرا جون أشبيري في محاكاته للعقل كواحد من أنماط التدخل الذاتي في كتابة النص الشعري، جامعا العاطفة مع الحاجة لتفسير ما بداخلها في عملية نثرية جميلة كما يؤكد عليها عزرا باوند حينما قال:
“الحفاظ على الشعر يجب أن يكون مكتوبا بنثر جيد”، من هنا كان اهتمام شاعرنا الغوار بنثره الشعري الذي امتد لمساحات واسعة في عديد إصداراته:
“الخروج من الأسماء 1996، الأشجار تحلق عاليا 1998، السماء تتفتح في أصابعي، حرريني من قبضتك طبعة ثانية 2011، احتفاء بصباحات شاغرة 2017، أول الحب.. أول المعنى” طبعة ثانية 2017″، فما بين تسعينيات القرن الماضي وهي سنوات الانطلاقة على صعيد النشر حيث شكلت البداية الحقيقية للشاعر وما بعدها تعيش القصيدة ظروف تلك السنوات، فهو ابن اللحظة تلك لا يواريها بل يجعلها واضحة للعيان، لأنها كالدم المسفوح لا يمكن إخفاؤه بسهولة، يقول في قصيدة “المنصور يسأل عن بغداد”:
“أتأبط صباحي المزعوم/حيث لا صباح لنا/أو لا صباح لبغداد/وأنتَ لا ترى الأطفال
يبتكرون صباحاتهم/ويفتحون طريقهم إلى الشمس/بنشيدها الوطني/أو أنت لا ترى
الحدائق إلا في مصاطب شاغرة/والأشجار مظلة لجنود الاحتلال”
وهو مع كل نزف حرف من حروفه يتشبث بالأمل كما في قصيدته “غناء”:
“الجرح الغائر/في أعماق تلك الشجرة/على طرفه الآخر/طائر يغني”
ولأن الشعر وقفة احتجاج حينما يدعو الموقف لذلك نرى شاعرنا الغوار وعبر سنوات شعره الممتدة طويلا يحمل لاءات احتجاجه ضد ما يتعرض له الوطن، حتى وإن كان الكبير منه الممتد من خليجه حتى محيطه الهادر، ففي قصيدة “الشام” نقرأ ذلك الاحتجاج الذي يرفع صوته عاليا يقول:
“لن تنحني مهما الزمان قسا/إن طال صبر واستطال أسى
من كل جرح فيك يشهر خنجر/ليقاوم الأحقاد والدنسا
وستنهض الآمال فيك عزائما/كالخيل غضبى تقطع المرسا
أنت الشأآم وكل من عادكِ يوما/عاد بالخيبات منتكسا”
إن قراءة متأنية لسيرة وتجربة الشاعر طلال الغوار كفيلة بإطلاعنا على صفحة مشرقة من صفحات الشعر العراقي الحديث عاشها بكل أناته، فرحه، معاركه، وهو لا يزال مقبلا على التغني به لإسماع صوته إن كان عاطفة أو وجدانا أو احتجاج.
أحمد فاضل- العراق