ثقافة

وجيه البارودي: لا باع لي في السياسة.. ولي في الحب أجنحة

كقامة شعرية سورية بامتياز كان الشاعر والطبيب وجيه البارودي محور حديث الندوة الثقافية الشهرية التي أقيمت في مكتبة الأسد الوطنية التي يشرف عليها ويديرها د. إسماعيل مروة بمشاركة د. نزار بريك هنيدي ود.راتب سكر.
بدأ د. مروة الندوة بإسماع الجمهور تسجيلاً قديماً لحوار كان قد أجراه مع وجيه البارودي في مدينة حماة عام 1988 وكانت هذه المرة الأولى التي يلتقي فيها مروة مع البارودي، ومما جاء في الحوار على لسان البارودي أن الشعر أتاه متأخراً في سن العشرين، ولم يغزُه كما يدّعي البعض منذ صغره، مؤكداً أنه قرض الشعر منذ البداية بشكل صحيح فكان مؤسساً تأسيساً صحيحاً، لأنه كان قارئاً جيداً للشعر، مبيناً أنه ما زال هاوياً، وأنه لم ينظم قصيدة كُلِّفَ بها في يوم من الأيام، مردداً في الحوار أن لا باع له في السياسة وله في الحب أجنحة تحلق في العلا.

جناحان من طب وأدب
كشاعر وطبيب يشبه حاله حال البارودي اكتفى د.نزار بريك هنيدي في مداخلته بالإشارة إلى البارودي الطبيب وكيف تجلّى طبه في شعره، منوهاً في بداية حديثه إلى أن التاريخ الأدبي عرف عدداً كبيراً من الأطباء الذين أصبحوا نجوماً لامعة في سماء الشعر وعلامات فارقة في مسيرته الإبداعية، إلا أن المسألة التي تستحق الوقوف عندها برأيه أنهم جميعهم في نتاجهم الشعري اهتموا بالأغراض الشعرية العامة التي يهتم بها الشعراء عادة دون أن ترتبط نصوصهم بمهنة الطب التي يزاولونها إلا بقدر ضئيل، مؤكداً أننا لن نجد شاعراً تكاد لا تخلو قصيدة من قصائده من اعتزازه بمهنته الطبية واستعراض لمهاراته العلاجية وتصوير الحالات المتعددة التي يصادفها في حياته المهنية مثلما نجد عند البارودي، حيث تماهت شخصية الطبيب بشخصية الشاعر العاشق والثائر على الجهل والفقر والتخلف، وفي هذا تتمثل واحدة من أهم خصائص تجربة البارودي الفريدة في شعرنا المعاصر، مشيراً إلى أن البارودي تَخَرَّجَ من كلية الطب عام 1932 عائداً إلى حماة مدينته ليفتتح فيها عيادته كطبيب، عازماً على التحليق بجناحيه: الطب والشعر حيث الطب لن يشغله عن إبداعه الشعري، بل سيزيد من رهافة إحساسه ويُعَمِّق رؤيته للعالم ويكشف له المزيد من خفايا العلاقات:
فلي جـــناحان مـــن طــــــبٍّ وأدبٍ    حَلَّقتُ ما أحد في الكون يدركني
وبيّن د. هنيدي أن الشعر زاد من قدراته الطبية وعزز مهاراته في تشخيص وعلاج مرضاه، فهو يعمد إلى استخدام كل معارفه العلمية لمعالجة المحموم، ويفيد من روحه رحيق الشعر والجمال فيشفي المريض بفعل الدواء أو بفعل الشعر:
فأسقيه من روحي رحيقاً ومن يدي       مريراً فيشفى بالرحيق أو المـر
ولما كان البارودي طبيباً خبر حياة الفقر أنشأ بين طبه والفقر ألفة، وراح يبذل لأبناء مدينته جهوده وعلومه دون مقابل إلا ما يكفيه لقوت نهاره، ليتهافت عليه المرضى من أهل مدينته، فذاعت شهرته وشدت ثقة الناس بعلمه وطبه، ولطالما عَبَّرَ البارودي كما أشار هنيدي عن تبرمه من الفوضى التي كان يثيرها المرضى على باب عيادته:
بابـــــــي خلــــــية نحل كلـــــه إبــــر         والنحل يمــــنحنا شـــهداً مع الإبر
هـــــذا يئن وهـــــــذا يستغيــــــث وذا         يرغي ويزبد في حمى من الضجر
وأوضح هنيدي أن البارودي كان يعمل على نشر الوعي الصحي ومحاربة الخرافة وتعزيز ثقة الناس بالطب القائم على العلم، وإرشادهم إلى أساليب الوقاية والحد من انتشار الأمراض، وهذا ما دفعه إلى كتابة مجموعة من المقالات الطبية ونشرها في مجلة “النواعير” التي كانت تصدر في حماة، منوهاً إلى أننا إذا أردنا أن نعرف طبيعة المرضى الذين كانوا يراجعون البارودي يمكن العودة إلى قصائده لنكتشف أنهم الشيوخ المسنين والنساء والأطفال:
وزبائني الفقراء من شيخ ومن        ولّادة في أتعـــــس الحــــــالات
ظل الطبيب والشاعر البارودي برأي هنيدي محافظاً على فرادته وتميزه، وهو الذي كان معجباً بنفسه ومدّاحاً لذاته، وقد كان يعد نفسه علَماً في الشعر والطب والحب معاً:
أنا نغمٌ في الطب والشعر والهوى       أنا علمٌ بين الشوامـــــخ شاهـــــق
إن إيمان البارودي بالعلم والطب يتراجع برأي هنيدي أمام إيمانه بما هو أكثر قدرة في تحقيق المعجزات وشفاء الآلام وهو الحب: أَحِبُّ أَحِبُّ  فالهوى يبعث الصبا
وأشار هنيدي إلى أنه وفي العام 1991 كان البارودي أقدم طبيب متخرّج في سورية يمارس عمله الطبي، وبهذه المناسبة كان وزير الصحة السابق د.محمد إياد الشطي – حضر الندوة- قد قَدَّمَ له درع الوزارة في احتفال كبير، وما ندوة اليوم إلا تأكيد على عمق وغنى تجربة البارودي المهنية والشعرية والشخصية.

بين الغرب والشرق
وأشار د. راتب سكر في مداخلته التي حملت عنوان “الرؤية الشعرية بين الشرق والغرب في تجربة وجيه البارودي” أن الإعجاب بالنموذج الغربي للحضارة يأتي في مقدمة العلامات الدالة على ذلك التأثير، مبيناً أن البارودي عبر بطرق مختلفة عن إعجابه بالغرب المتقدم وتمرده على الشرق المتخلف البائس الذي ينتمي إليه، وكثيراً ما يعبر صراحة عن تلك الثنائية التي ظلت تؤرقه في صراعه الطويل مع تقاليد البيئة الاجتماعية التي عاش فيها:
في الغرب طاروا نسوراً وسخّروا المستحيل
والشـــــــــــرق ظلّ يناجـــــــــي
أهـــــــل القـــــــرون الأولـــــــــى
وقد ظلّ هذا التعبير الصريح برأي سكر عن ثنائية الغرب والشرق سمة أساسية من سمات شعر البارودي، فقد كان أفق التجديد والتمرد موقفاً نهائياً له لا يقوى على المساومة فيه، وقد خاض حرباً طويلة تَجَلَّت في كل معاركها عناصر المقابلة بين ثنائية الغرب والشرق في تفكيره:
كفروا بدين العلم واعتصموا بحبل التّرّهات
يخبو المثقف بينهم كسلاً ويهفو للسبـــــات
أوضح د.سكر أن قسوة البارودي في نقده الاجتماعي لم تكن نابعة من تفضيل الغرب على الشرق تفضيلاً مطلقاً تمحى معه معالم الهوية في انتمائها والتي ظلت في شعره قيد التوشح بضباب الكلمات:
وصبغة من كتاب الله تصبغني
وبالعروبة والإيمان تطبعنـــــي

شاعر العشق
وتحت عنوان “وجيه البارودي والدخول في الإشكال” لفت  د. إسماعيل مروة إلى إشكالين ارتبطا باسم البارودي، الأول اتّهام البعض له بأنه هجا مدينته حماة، وهذا غير صحيح لأن من يهجو مدينته لا يسكنها، وأنّ القصائد الكثيرة التي اعتمد عليها البعض في اتّهامه إنّما هي قصائد كان البارودي يتحدّث فيها عن البنية الاجتماعية التي كانت موجودة في مدينته التي يحبها، أي كان ناقداً للظواهر الاجتماعية التي كانت منتشرة بين أبناء مدينته، ففعل ما فعله عبد السلام العجيلي في قصصه التي تضمنت انتقادات كثيرة عن أبناء منطقته، أما الإشكال الثاني في حياة البارودي فهو عن المرأة، مبيناً أن البارودي كان يقول: إذا كان نزار قباني شاعر الحب فأنا شاعر العشق، وعندما سأل مروة البارودي في أحد حواراته: وما الفرق بينهما؟ قال: قصيدة نزار لكل امرأة، وقصيدتي لامرأة وجيه، وهذا يعني برأي مروة أن شعر الحب لديه كان تعبيراً عن مغامراته الخاصة.
أمينة عباس