سمر محفوض وشعرية الهدم “بناءً على ما تهدم “..
شعريةُ الهدم، هي سلوكٌ جديدٌ في الكتابة الشعرية الحداثية، المُستندة إلى بناء ما تهدم، سلوكٌ يخطُّ مداه بمطرقة الغربة، بالشّك، بالإصرار، بالاحتمال، بالانقطاع، بالعماء، وبعصيانٍ تشيخ المسافة فيه، ناسفا كلّ ميتافيزيق أو يقين، ومفجّرا قُداسة المقامات، وأبدية المصير، ويمشط شعر المعارك الدائرة بشرود مبتكر، وبحرية يحسد عليها.
هذه تحديدا، الرؤية التي استحكمت، في ديوان “بناءً على ما تهدم” للشاعرة السورية سمر محفوض، المَوْسُوم بـ”الهدم”.
من هذا المنطلق فإن الإشكاليات التي تطرحها هنا يمكن إثارتها من خلال التساؤلات التالية: ما هو أسلوب الهدم الذي تتحرك ضمنه مفردات البناء وتخيل ومخيال ومخيلة الشاعرة؟ والى أي حد يكون من الضروري ممارسة بناء ما تهدم لبلوغ المعرفة/الشعرية؟
جوابٌ أو حكمٌ يُمكن امتشاقه من تضاعيف العنوان، الذي ينبس، مُبكّرا، بتشييد الحزن، والعبور إلى جهاتٍ لم يفسدْها الملح الأخرق، كيفما كانت، بشرا، أفكارا، قيما، دوال. العبورُ ذاتُه، الذي سمّاه نيتشه سابقا، طريق الحقيقة، تبني عليه الشاعرة مرة أخرى، وتعيش هذه الانفعالات وفقا للمثيرات التي تثيرها على شكل هواجس شعورية، تتدخل فيها الدوافع اللاشعورية فتسجد على سجادة صوتها مؤتلفةً بذات القصيدة وانتشاءً بظلّها تقول:
“يمدُّ لي صوتاً/لأصعدَ إلى آخر سمواتِ/ضلالاتي بأوهامي/التي لا تحدّ ولا تنكمش/أحاول لملمة المجهول/الذي ينسج أشواقه الغبارية/كي يستمتع بدهشتي/إلى آخر الحب، وآخر المساءات”.
لعبة الزمن
لقد أصبح الشّكُّ، مبعث قلق أنطولوجي، عند الشاعرة وبين الماء والماء ، الشكُّ في القيم، والأفكار، والأيديولوجيات، والذات نفسها، فالحقائق التي كانت إلى الأمس القريب، ثابتة ولايُمكن، البتة، الشكُّ في مصداقيتها، ستتحول مع مرور الوقت، إلى سراب ورماد، بضربة منشوق المعنى، إنها لعبة الزمن التي تشتغل عليها الشاعرة في البحث عن كينونة القصيدة، وعن لحظة تلبسها قميصاً من خصال الينابيع، وتطيبها بنكهة العطش أو عصير الحجر، من خلال هذا التضاد بين الظاهر والباطن، بين المعنى والمبنى، لا بد من لغة أخرى تعينها على بوح ما تهدم في ظلّ الطوفان وجموح الزقزقات:
“وكيف لغيمٍ أن ينسج طوفاناً أخضر/ويداك لا تصطافان فيه/بنكهة عطش أو بعصير الحجر/آن مجيئك، يبشر بقدومك البرتقال..؟/والغيم يُلبسني قميصاً من خصال الينابيع.”ص-99
قطب الرَّحى
ويُمكن اعتبار، العنوان “بناءً على ماتهدم”، قطب الرَّحى في هذه المجموعة، أبهى تجلّ لنزعة الشك، التي جعلت يد الشاعرة تكتُبُ بارتعاشِ كبير وهي المصلوبة في الأسفار جميعها، وتستوي على أسرارها الأولى والأخيرة بين ضمة كافٍ ونو ن، ولحظة تنفلت مثل أفعى تنفخ النسيان بلهاث الحليب وانكشاف النور في عتمة الوجود، فتنكشف لنا مساحات من العدم الأزرق، وتنزلق قطرةُ ندى وألف نهار لا ينتهي، فتجعلنا نغيب في عالمها الصوفي، كما يغيب الصوفي في خمرة اللغة المعصورة من عنب القلب:
“أنا الامتدادُ/وأنا المصلوبة/الأولى والأخيرة/في الأسفار جميعها/اللحظة تنفلت مثل أفعى/تنفخ النسيان بلهاث على شفة الحليب/وتنتحب”.ص-61
حدود اليقين
إذن، ثمة في فكر الشاعرة، رغبة مُلحّة، في فتح جرح، في تبدّيات وجودِ كان، وثم نسيانُه وطيّه، النسيان هنا، ليس إلا نسيان الوجود، بلُغة هايدجر. لقد كان الطّيُّ دائما، في حاجة إلى بسط، وهو الآن، أكثر من أي وقت آخر، في أمسّ الحاجة إلى هذا البسط.
ولعل الشاعرة، من خلال هذه التجربة، كان بوسعها ذلك، منتهجة شعرية جديدة، هي شعرية البناء والهدم، لقد وضعتنا أمام نظام آخر للرؤية والكتابة، وكأنها تشير إلى استعادة اللغة البكر، اللغة الأولى والأخيرة من أجل أن ينهض الشعر من كينونته، فقد أدركت كنه تلك الأمانة التي تجعلها قصيدة النهار في ظلال المعنى الذي يتدلى لها من غياباته حتى حدود اليقين فتتلقاه في ظلال الطنين أو القيامة،إذ قالت:
أنا العابرة إلى شوقي إلى ما غاب مني/أرى ما مضى قريباً أراه/الحرن علامة/والغياب أنت..أو الحياة/كان بوسعك يا غياب/أن تقترب على مهل بالأشياء على مهل بالأشياء التي بيننا/يا أمُّ أنا مسكونةٌ بالشعر/ومتى يغمرني الأمل/ما جدوى الجدوى..وما المعرفة..” ص44-45
جنون الآلهة
لم تحدد الشاعرة هذه الطريق الأخرى لبناء ما تهدم، غاصت بجراحها عميقاً وتركتها مفتوحة على البدايات والنهايات كي تفيض مثل نهر ، لكنها بذكاء أسئلتها خاتلتها، أشارت إليها ضمنيا وعلى نحو خاص،عبر العنوان. وتعتز به، لديها الشعر، وهو قادر على الفرح بها، لأنه يدرك وكما توحي نصوص الديوان، أن الشعر هو الحقيقة الوحيدة غير القابلة للنسيان، بعيدا عن ترهات الشعراء وجنون الآلهة، ثم انعطافها إلى رد الهدم على البناء كما في قولها:
“ما أشد هولك أيتها الفاجعة/أبحث تحت هذه الخدوش/عن الصوت..والصدى/لا تدون الحقيقة كاملة/اجلس يا قلب على حجر واحصِ الملح الذي يبقع كل الأشياء/اجلس واكفر بهذه الفناءات” ص-188
في خضم هذه المساءلة، وفي ضوء مشاهد ووقائع بعينها تستدعيها الشاعرة من خزانة التاريخ،لاتضع الشاعرة قدمها فحسب– في ماضٍ يرى أن شهادة رحيلها لم تنتهِ، لكنها بقوة المساءلة وجرأة المواجهة حول نصها الشعري إلى معول للتقصي والنقض، الهدم والبناء، لإعادة المساءلة والفهم من جديد للعالم والأشياء، وللآخر بكل فظاظته وقمعه وعدوانه.
جملةالقول: إن الشعر هو ملكة ولا شيء خارج الشعر ويمثل الأشياء التي لم يقع تسلمها في اللحظة من المحسوسات، فالشِّعرُ ليس نظاماً هداماً فوضوياً يرفض كلَّ شيء، بل هو أسلوب حياة عقلاني وبَنَّاء، وهذا لايتعارض مع أهمية الهدم- في بعض الأحيان- من أجل البناء الشعري على قواعد صلبة، واستخلاص جواب مناسب بناءً على ما تهدم.
أحلام غانم