“ديوان القاضي الهروي” بين الشعر والنثر
مخالفا معظم الشعراء في مسيرتهم الشعرية، لم يمدح “منصور بن محمد الأزدي” الملقب بـ “القاضي الهروي” خراسان-360 هجرية- نسبة إلى عمله كقاضي في مدينة “هراة” واحدة من أهم مدن “خرسان” التي كان يعمها العلم والرخاء، لم يمدح هذا الشاعر العباسي المتوفى 440 هجرية أي خليفة، فلم يعثر “إبراهيم صالح” على قصائد أو حتى أبيات شعرية قليلة يمدح فيها القاضي “الهروي” وهو ينحو هذا المنحى، في بحثه لجمع هذه القصائد، ووضعها في كتاب، محققا بذلك متعة لقارئ الشعر، كما أنه يقوم بجمع نتاج هذا الشاعر الرقيق القلب، في كتاب يبقى محفوظا بين جلدتيه إلى الأبد، فلا تهدره أجيال قادمة، كما تم هدر العديد من القصائد حسب مزاجية التدوين في بداية عصره، وفيما بعد أيضا!.
“إبراهيم” الذي عني بتجميع وتحقيق كتاب “ديوان القاضي الهروي” الصادر عن وزارة الثقافة-الهيئة العامة السورية للكتاب-يؤكد هذا في المقدمة، التي ذهب فيها ليضعنا بالأجواء العامة التي سادت حياة الرجل، وبالتالي تهيئ الذهنية العامة للقارئ، ليلج العالم الشعري لهذا الشاعر الذي يعتني بالكلمة وكأنه يصقلها مرة واثنتين وثلاث، قبل أن يتبناها في قصيدته، عدا عن الأسلوب الذي يتبعه “القاضي” في سبكه شعره في أواني المعنى، معتمدا على تقنيته المتينة لفظيا، وصوره الرشيقة ومواضيعه المختلفة والمنتقاة من صيغ الحياة عامة، مع لمسات بارعة للخيال، في دفع القصيدة لتصبح أكثر جمالا، والجمال عموما هو أحد القيم التي يسعى إليها الشعر، ولا يقوم إلا بها.
وفي سيرة هذا القاضي الدمشقي، الذي جاء دمشق واشتغل في العمل السياسي الاجتماعي فيها، بالإضافة إلى كتابته الشعر، ما يجعلنا نستحضر “امرؤ القيس” في قوله: “كلهم أروغ من ثعلب/ ما أشبه الليلة باالبارحة/ وذلك بالنظر إلى حال “فلسطين” المحتلة اليوم، وكيف يتعاطى مع قضيتها، زعماء وملوك دول عربية الآن وهي تُذبح على مرأى الجميع، حيث جرى مع “القاضي الهروي” حادثة تضعنا بما جرى أثناء الحروب الصليبية على القدس، تجعلنا نعرف قيمة هذه الحكمة، تقول الحكاية: جاء إلى “القاضي الهروي” وفد من النازحين الفلسطينيين من القدس، بعد دخول الصليبيين إليها، وأجروا الدماء في شوارعها، كما تقول الكتب القديمة، حتى الرُّكب. قرر القاضي الهروي أن يذهب، والوفد الفلسطيني، إلى الخليفة العباسي في بغداد، فلم يستطع مقابلته، إلا بعد لأي، وبعد هذا اللأي، لم يأخذ منه إلا الكلام، فقرر أن يستثير نخوة البغداديين. فقام بطلب الخطبة في أحد جوامعها، وكان ذلك في يوم من أيام رمضان. صعد قاضي دمشق المنبر، وبيده صُرَّة. جال ببصره على المصلين، وعوض أن يبدأ الخطبة فتح صرته وأخرج خبزاً وأكله على مرأى من جموع المصلين المبهوتين. سرت همهمات، وعلت أصوات استنكار، ثم هاج المصلون، وماجوا، فتنحنح القاضي الهروي، وقال لهم ما معناه، ويحكم تهيجون وتموجون لإفطار رجل في رمضان، فيما لا تحركون ساكناً حيال سقوط قبلتكم الأولى!.
هذه واحدة من الحكايات الكثيرة التي رويت عن هذا الشاعر وعن دهائه الموصوف به، لكن ما لفت المحقق “صالح” في القاضي الهروي، عدا عن حياته والعديد من حكاياتها ذات العبر والمعاني، هو تلك العذوبة الغضة التي تحيا في شعره،فهو ابن “هراة” وهي مدينة عظيمة ومشهورة، من أمهات مدن خُراسان، فيها بساتين كثيرة ومياه غزيرة وخيرات كثيرة، ومملوءة بأهل الفضل الثراء، كما أنه من بيت علم، فأبوه “أبو المنصور” واحدا من رجالات تلك المرحلة في خراسان، الذين كان السلطان يجلهم ويحترمهم لعلمهم ورجاحة فكرهم، فكيف لمن كان هذا حاله من نشأته ومرباه، إلى أن يحرك هذا الجمال مشاعر روحه، فيهتز لها وجدانه شعرا ومنه:
أدارَ البدرُ لي شمس السماء
ووجه الصبح منكشف الغطاء
فراحي والصباح ومن سقاني
ضياءٌ في ضياءٍ في ضياء
وكما كتب “القاضي” الشعر وأجاد بصياغته لقصائده التي لم يجسم فيها الصورة في وضع معين، بل إنه حركها في أوضاع مختلفة، تسعفه في ذلك لحظات الزمن المتتابعة التي يصور فيها صورته،وهي صورة تنبض بالحياة والعواطف البشرية، وليست صورة جامدة، كتب أيضا النثر، حيث قام “إبراهيم صالح” محقق الكتاب، بجعله قسمين، قسم أسماء الديوان وأورد فيه القصائد الموزونة، معتبرا أن الجمال وحتى الحداثوية التي تتضمنها تلك القصائد، تأتي من الصورة الشعرية ومن طبيعة الصياغة اللغوية، القائمة على اللعب المنضبط بالكلام عند هذا الشاعر، والقسم الأخر أسماه “نماذج من نثره”، وفي زمانه–أي الشاعر-زخر العصر العباسي بالأحداث التاريخية، والتقلبات السياسية، ما زخر بالتطورات الاجتماعية التي نقلت العرب من حال إلى حال، وقد كان لكل هذا، فضلا عن نضج العقول بالثقافة، أثر واضح في تطوير الأدب بعامة، والكتابة بصفة خاصة. حيث تقدمت الكتابة الفنية في هذا العصر تقدما محسوسا، وسارت شوطا بعيدا في سبيل القوة والعمق والاتساع، وهذا الازدهار للنثر وبلوغه ما بلغه من مكانة أدبية، جعل “القاضي يخوض فيه، ومما كتب بهذا الشأن: “كتبت ويدي واحية، وعيني ماحية، فسل بي الأرق، وأنا لا أحمل الورق، ولا أقل القلم، فأصف الألم” ونلحظ أن نثره – والنثر عموما- في تلك الأزمنة، يختلف عما هو عليه الآن، فلقد كان “الناثر” يستخدم المحسنات البديعية”الجناس- الطباق وغيرها” لتكون روح نثره مستوحاة من الأسلوب العام للنثر كما كان أسلوبه ذاك الزمان، حيث يعتبر العديد من النقاد العرب، أن “القرآن” هو أول كتاب نثري عند العرب، وهذا كان شأن “الشاعر” القاضي الهروي بشكل عام في حياته التي عاشها بين الشعر والقضاء.
يقع الكتاب في (128) صفحة من القطع المتوسط ويقع ، يقدم فيها جامعه ومحققه “إبراهيم صالح” للقارئ، ما يستحق أن يحتفظ به في مكتبته، دون أن يبحث عليه في “غوغل”!.
تمّام علي بركات