سهير برهوم “أما بعد”: عرض واقعي جداً
تّجربتها الأولى كانت لها رهبتها وهي التي لم تكن حديثة العهد في مجال المسرح والعمل المسرحي، إلا أنها كانت اختباراً حقيقياً بالنّسبة لها وهي تعتقد أنها نجحت في الاختبار، على الأقلّ أمام نفسها، لذلك تستعد المخرجة المسرحية سهير برهوم اليوم لتقديم عملها الثاني “أما بعد” بثقة أكبر والذي من المقرر أن تبدأ عروضه اليوم على مسرح القباني بدمشق, مؤكدة أنها تعرف تماماً ماذا تريد من العرض، خاصّة وأنّها كاتبة النّص, حيث كانت الصّورة فيه واضحة في مخيّلتها بعد خطوات محسوبة خطتها إلى حدّ كبير، مشيرة إلى أنها تعرف أدواتها جيّداً وتستطيع إيجاد الحلول المناسبة، ومن ناحية التّعامل مع الممثّلين فلها طريقة منسجمة مع طبيعتها وشخصيّتها أكثر من كونها متلائمة مع دورها كمخرجة انطلاقاً من إيمانها بأنه لا بدّ من الحوار المتواصل وتبادل الآراء والاقتراحات، فالمسرح حوار برأيها، شريطة ألا ينفلت زمام الأمور وتتشتّت الصّورة ويضيع الهدف، حينها لن نصل إلى نتيجة.
تدور أحداث المسرحيّة -كما تبيّن برهوم- حول نجيب (يؤديه علي القاسم) الرّجل الذي أحيل إلى التّقاعد لبلوغه سنّ السّتّين, الأمر الذي يشكّل له همّاً يسيطر على تفكيره وعلى حياته المنزليّة وعلاقته بزوجته, حيث كان يجد في العمل كلّ حياته, بل جوهر حياته, ويصعب عليه الاقتناع بفكرة التّقاعد وهو الذي ما يزال قادراً على العمل والعطاء ويشعر أنّ مشروعه في هذا الإطار لم يكتمل بعد، لذلك يحاول أن يثبت وجوده من خلال تدخّله بالأعمال المنزليّة، لكنّه يجد استياء من زوجته نهى, وحين يحاول أن يعرض خبراته على المدير الذي استلم مكانه يقابَل بالازدراء، في الوقت الذي يترك ابنه الوحيد جمال البلاد ويهاجر.. أما علاقته بزوجته فتتحوّل إلى مشاجرات يوميّة، فالأخيرة (تؤديها إيمان عودة) تملّ هذا الحديث الدّائم عن همّه، وفي لحظة ما تضيق به ذرعاً وتبوح بما يعتريها من هموم هي الأخرى, حيث استياؤها من هذا القبو الذي اضطرّا للانتقال إليه وحنينها إلى بيتهما الأوّل الذي هجراه بسبب ظروف الحرب، وأحلامها التي تكسّرت ولم تكتمل وغياب ابنهما جمال المسافر خارج البلاد وانقطاع أخباره ما يودي بها إلى الانتحار في النّهاية.. وهكذا يبقى نجيب وحيداً ضعيفاً منكسراً يحاول اللجوء إلى جاره الذي يعاني من انفصام الشّخصيّة (يؤديه زهير البقاعي) لكن عبثاً، فيصل به الحال إلى التّساؤل عن أهميّة وجدوى وجوده في هذه الحياة، وفي أوج حالات ضعفه ويأسه تأتيه نتيجة فعل قام به دون انتظار فتكون نفحة أمل تعيد له الرّوح من جديد.. هنا تكتفي برهوم بهذا القدر من الحديث عن المضمون كي تترك بعض المفاجآت إلى حين العرض، مركزّة على رّسائل العرض، وأوّلها مصير هؤلاء المتقاعدين وهل هناك دراسة أو قانون لأحوالهم وظروف الوظيفة المتدهورة وغير الصّحيّة في مؤسّساتنا التي ربّما تدفع بالبعض لتفضيل الاستقالة أو الّلجوء إلى التّقاعد المبكّر، وما هو دور الجمعيّات الخيريّة والتّفاعل معها والذي يحقّق المساعدة من جهة وحالة الرّضى من جهة أخرى من خلال هذا التّفاعل الإيجابي.. والرّسالة الأهم هي في سؤال: متى ستنتهي هذه الحرب الملعونة؟
صدمة حقيقيّة
لا تعتقد سهير برهوم أنّ هناك من يستطيع اليوم أن يغرّد خارج الإطار العام الذي ندور ضمنه جميعاً وإلا سيكون منفصلاً عن الواقع، موضحة أنها تناولت همّاً خاصّاً وحالة واقعيّة موجودة تفرض ثقلها على الكثيرين ممّن حولنا, والأكثر من ذلك أنّها تشكّل صدمة حقيقيّة لأيّ شخص كان يمارس عملاً ما على مدى سنوات تقارب الثّلاثين ويصل إلى سنّ التّقاعد، حيث يسيطر عليه شعور بالهرم والعجز وعدم أهميّته لأيّ كان, فيصل إلى مرحلة يشكّك فيها بجدوى حياته، ويبدأ المرء بالانتباه إلى الزّمن أكثر ويخشاه، مشيرة برهوم إلى أن هذه الحال تودي بالأشخاص المتقاعدين في كثير من الحالات إلى المرض، وأحياناً إلى الموت، وهذا أمر مرعب وقد لمسته ورأته برهوم من خلال حالة قريبة منها جداً، وهذا ما دفعها لكتابة هذا النّص وقد أطّرته بالإطار العام الذي ندركه جيّداً, مؤكدة أن من سيشاهد العرض سيتلمس الكثير من الإشارات إلى الحرب وآثارها لأن نجيب بالدّرجة الأولى هو وزوجته اضطرّا لترك بيتهما, وابنهما الوحيد هاجر وانقطعت أخباره, فسيطرت حالةٌ الخوف على مفاصل حياتهما في أغلب الأحيان بسبب الحرب، والنّموذج الأوضح في العرض برأي برهوم والذي سيراه الجمهور هو شخصيّة الجار الذي تعرّض أيضاً لخضّة عصبيّة بسبب فقدانه ابنه، كذلك الطّفل اليتيم الذي يكفله نجيب بعد أن يتّمته وشرّدته الحرب، وبهذا نرى أن الحرب عشّشت آثارُها فينا وأصبحت حديثَنا في قيامنا وقعودنا، وحتّى مع فنجان قهوتنا.
واقعي جداً
وصفت برهوم موضوعها في العرض بأنّه “واقعي جدّاً” وراحت تفكّر في كيفيّة نقل هذا الواقع إلى الخشبة بأسلوبها وبشكل لا يجعل من العرض صورة عن الواقع، لذلك كان همّها البحث عن الجماليّة وعناصر الإدهاش والشّكل الفنّي الذي سيُقدَّم من خلاله هذا الموضوع الواقعي، والأهمّ من ذلك كيفيّة التّداخل بين الهمّ الخاصّ والهمّ العام, مع ترجيح كفّة الخاصّ لأنّها لم ترِد الغوص أكثر في تفاصيل الوضع العام الذي نعيشه منذ سنوات فمهما حاولنا لن نستطيع أن نقارب ما يحدث, إلا أنها تعتقد أنها استطاعت ملامسته والمرور به وإبراز آثاره، تحديداً من خلال شخصيّتَي الجار وجمال الغائب، لذلك كان لا بدّ من إيجاد حلول على صعيد المكان والإضاءة وحركة الممثّل، مبينة أنها نجحت إلى حدّ ما بمساعدة مصمّم الدّيكور محمّد خليلي ومصمّم الإضاءة بسّام حميدي اللذين عكسا تصوّراتها بتصاميم ذكيّة وجميلة للمكان والأجواء فيما يخدم الفكرة تماماً ويحقّق المعادلة وبقدرات الممثّلين أيضاً ومن خلال الموسيقا التي ولَّفها جمال تركماني والتي كانت في جزء منها حياتيّة مصدرها المذياع وفي الجزء الآخر موسيقا مختارة منسجمة مع حالة الشّخصيّات.
ليلة الوداع-حياة
وبالعودة إلى التجربة الأولى لسهير برهوم تعترف أنّ مونودراما “ليلة الوداع-حياة” كانت الأصعب بالنّسبة لها كتجربة أولى، ففي المونودراما على المخرج أن يبحث عن مشهديّة ومعادل بصريّ للنّص السّرديّ الذي بين يديه, حيث هناك ممثّل واحد على الخشبة يسرد معاناة فرديّة ذاتيّة فيعود بالذّاكرة سنواتٍ إلى الوراء, يستحضر شخصيّات من ماضيه أو ينشد أحلاماً في مستقبله, وهنا على المخرج أن يجد أفعالاً ضمن هذا الفضاء الذي يدور فيه ضمن الصّراع الدّاخلي للشّخصيّة التي تحتاج لممثل يعتمد على الحسّ الدّاخلي والذّاكرة الانفعاليّة، وهذا من صلب عمله معتمداً في تجسيد ذلك على أدواته ومقدراته وقدرة المخرج على إيجاد حلول وإلا سيتحوّل الأمر إلى مجرّد روي وسرد مملّ بالنسّبة للمتلقّي، لذلك فإن المونودراما برأيها ليست أمراً هيّناً أبداً، ولذلك تؤكّد أنّ الأمر مع “أمّا بعد” أسهل، فالحوار بحدّ ذاته بين الشّخصيّات يخلق نوعاً من الحيويّة قبل أيّ شيء, ويخلق أيضاً الفعل وردّ الفعل تفاعلاً وصراعاً، بغضّ النّظر عن الصّراع الدّاخلي لكلّ شخصيّة منفردة, وتتضافر مع التّشكيّل الحركي العناصر المسرحيّة الأخرى مما يخلق المشهديّة في العرض، موضحة برهوم أنها تعتبر عملها “أمّا بعد” استكمالاً للعمل الأوّل “ليلة الوداع” من حيث الموضوع المتناول.
وتنوه برهوم إلى أنها عملت في الماضي في الكثير من الأعمال المسرحيّة لمخرجين مختلفين كمخرجة مساعدة ودراماتورج مثل الأساتذة زيناتي قدسيّة, عجاج سليم, أيمن زيدان, تامر العربيد, نضال سيجري, فائق عرقسوسي، وليد قوتلي، غسان الجباعي وقد استفادت كثيراً من هذه التجارب التي راكمت لديها خبرة، فكلّ عمل بالنّسبة لها كان مختبراً، ولا تنكر أنّها تأثّرت لجهة الخبرة والمعرفة وآليّة العمل، مشيرة إلى أنها لا تستطيع القول أنها تأثّرت بأحد منهم على وجه التّحديد وربّما لم تتأثّر وهي التي خطّت لنفسها أسلوباً تتشكّل ملامحه شيئاً فشيئاً مع كلّ عمل جديد، متمنية أن تكون وفريق عملها قد نجحوا في تقديم عمل مسرحي يرضي عشّاق المسرح ويليق بنا وبمديريّة المسارح والموسيقا.
بطاقة العمل
تأليف وإخراج: سهير برهوم- تمثيل: علي القاسم, إيمان عودة, زهير البقاعي، وحضور مميّز لصوت الإعلاميّة هيام حموي- تصميم الدّيكور والملابس: محمّد خليلي- تصميم الإضاءة: بسّام حميدي- تصميم البوستر والبروشور: أدهم إسماعيل- كريوغراف وتوليف موسيقا: جمال تركماني- ماكياج: منوّر عقّاد- تصوير فوتوغراف: يوسف بدوي- تنفيذ صوت: إياد عبد المجيد- تنفيذ إضاءة: طاهر سلّوم- تنفيذ فنّي للدّيكور: علي خليلي- مساعد مخرج: رامي السّمّان- متابعة إعلاميّة: هناء أبو أسعد- مدير منصّة: هيثم مهاوش- مسؤول ملابس: علي النّوري- مسؤول إكسسوار: حسين الإبراهيم.
أمينة عباس