إلى من يهمّه الأمر!
يشكّل الإحساس بالأمر، وتَمَثُّلُهُ، والانشغال به، والاستعداد له.. عناصر مهمّة في تسريع تحقّقه، وتجذيره، وتعميم مفاعيله، وانتثار انعكاساته.. كما هي حال الخلاص من الأزمة الكارثيّة التي نعيش، ونأمل أن تكون أوشكت على أن تنتهي أوزارها، وتأفل فصولها القاتمة، لنبقى، بما جَوهَرَ من خصال، وما تجلّى من إرادات، نكفكف الأحزان، ونقف على الخسارات، ونلتفت إلى ما بقي من كياناتنا، ونعالج التبعات بما يليق ويجدي. وإذا كانت الوقائع الميدانيّة على الأرض، وأصداء المواقف والتصريحات من داخل الحدود ومن ورائها، تؤكّد قرب الانتهاء من الإرهابيّين وسواهم من المعتدين في الداخل والخارج؛ بفضل بطولات وإقدامات وصمود ومواجهات، وتضحيات قدّمها الجيش العربيّ السوريّ، ومختلف القوى الرديفة والشرائح الأخرى، ترتفع بها الهامات، وتنتصب القامات؛ وإذا كان الحصول على الفوز المقدّر صعباً، وتطلّب الكثير الكثير من الأنفس والأعمار والممتلكات؛ فإنّ الحفاظ عليه لا يقلّ صعوبة، من أجل الترميم والتدعيم وإعادة البناء، ومن أجل التحصين المعنويّ والمادّيّ؛ كيلا يتكرّر ما كان من خراب ومَرار؛ مع قناعتنا المستندة إلى التاريخ القريب والبعيد، بأنّ محاولات الإيذاء لن تتوقّف، والدوافع الشريرة لن تهدأ.. لكن علينا بما لدينا وما نستطيع؛ ولأنّ التحصين من مسؤوليّة الجميع من مؤسّسات رسميّة وخاصّة، وأفراد ومجموعات، فإنّ الثقافة هي العصب الأساس، وهي التي توزّع الغذاء الروحيّ الضروريّ، وتبثّ الوعي والطمأنينة، إلى كلّ كائن عاقل.
ومع أنّنا نرى التحضير لمرحلة إعادة الإعمار، الحالّة حتماً،قد بدأ في قطاعات عديدة، وعلى أكثر من مستوى؛ من خلال مؤتمرات وندوات ولقاءات ومشروعات، تقوم بها شرائح، وتدعو إليها دوائر، فإنّ القطاع الذي يكاد يغيب عنه ذلك، هو القطاع الثقافي؛ وهو الذي كان أقلّ حضوراً وإقناعاً خلال السنوات العجاف، ولا يشكّل صوتاً مميّزاً هنا، أو نشاطاً نوعيّاً هناك، جبهة ثقافيّة حقيقيّة، وإذا كان الارتباك والتردّد والانتظار من معالم السنين الأولى من الأزمة/ العدوان، على الرغم من أنّ هذا لا يصحّ، بأيّ حال، مسوّغاً لقصور الثقافة أو عجزها، فإنّ ما مرّ من أحداث، وما تبيّن من حقائق، وما تكشّف من مواقف، لا يترك جميعها أيّ عذر أمام المثقّفين والمؤسّسات الثقافيّة؛ لكي يكون سعي حثيث وجادّ وفوريّ، وبفاعليّة وحيويّة ومسؤوليّة لتعويض ما فات؛ وهو كثير، والتحضير لما سيأتي؛ وهو أكثر، وما هو مطلوب ومأمول وهو غير محدود ولا ينتهي..
وإذا كان من المتعذّر أن تكون النتائج التي تُفضي إليها التحرّكات المختلفة في هذا الإطار؛ كما يُرتجَى، وكما تفيد به العنوانات واللافتات، إذا ما كانت الآليّات والوسائل والأدوات هي نفسها،تلك التي كانت قبل الكارثة، أو في خضمّها، من حيث التفكير والتخطيط والتنفيذ، فإنّ هناك استحالة الجدوى في الثقافة ومنها، إذا ما كانت الأمور ستبقى بالوتائر والعناصر والأساليب ذاتها، وستظلّ الشعارات والظهورات الإعلاميّة الأرضيّة والفضائيّة عينها، أو تبالغ أكثر؛ ولا سيّما أنّنا نعلم أنّ “المثقّفين” قادرون أكثر من سواهم على الصياغات الملوّنة والتزيين والتدبيج، والكلام “المعسّل”، الذي لا يغني ولا يسمن، وإن كانت الجدولة والأخبار ترضي من يراقب ويتابع، ويعدّ التقارير، بصرف النظر عمّا يجري على الأرض، وفي المدرّجات، والقاعات، والمكتبات… ولا بدّ من أن نشكر موظّفي بعض المؤسّسات الثقافيّة وموظّفاتها، الذين يشغلون؛طوعاً أو كرهاً؛عدداً من الكراسي الفارغة؛ ستراً لماء الوجه!
منذ مدّة ليست بعيدة، وليست المرّة الوحيدة، وبعد انتهاء لقاء ثقافيّ “نوعيّ” مطوّل، شارك فيه أدباء عديدون من مختلف المحافظات، كاتَبَني أحد الأصدقاء المهجوسين بالثقافة الوطنيّة، وكان ممّن حضروا الاجتماع، متسائلاً عن سبب شحوب ملامحي طوال الوقت؛ متمنّياً ألّا يكون لديّ مكروه، فأجبته حقّاً كان لديّ ما يُحزن؛ لكنّ السبب الرئيس في الكآبة التي تكاد تلازمني- مع أنّي لم أفقد التفاؤل يوماً، بالرغم من كلّ ما جرى- هو ما يجعلني أستحلفك بما تعتقد: بعد كلّ ما مرّ؛ هل بمثل هؤلاء، وبما قدّموه، وبمثل هذا الأداء، ترتقي الثقافة، وينهض الوطن؟!
الجواب لدى من يهمّه الأمر!
غسّان كامل ونّوس