ثقافة

الرياضـــــة أشـــــرف الحـــــروب

كيف تخطف هذه (الكرة) الأبصار والأسماع وتتقاذف القلوب، هذه الكرة العجيبة الشعبية بامتياز، لم تكن في غزل الأقدام لها ببعيدة عن اهتمام الأدباء والمبدعين والكتاب والفلاسفة والمحللين السياسيين والاستراتيجيين، إذ إنها في -السياق- الآخر صورة لاستعارات السياسة وحروبها، وليس أقلها استعارة تعبير (لعبة الأمم) وسواها، إنها الأقرب إلى اهتمامات المبدعين أيضاً حينما وصفها ذات يوم الشاعر الراحل محمود درويش بالقول: (إنها أشرف الحروب)، ونضيف لأن أهدافها نظيفة أيضاً، الكرة مالئة الدنيا وشاغلة الناس، وسيدة الأمزجة في الأزمنة كلها، ليست فتنتها عابرة، بقدر ما هي ملهمة للغة وصناعها، والأدل هنا ما قاله توفيق الحكيم يوماً: (انتهى عصر القلم وبدأ عصر القدم)، ليضيف محمود درويش: (هي فسحة تنفس تتيح للوطن المتفتت أن يلتئم حول مشترك ما)، ويصفها درويش في كتابه ذاكرة النسيان (بساحة التعبير)، ويُروى عنه أنه في إحدى قراءاته الشعرية استهل كلمته بالتعجب من حضور البعض أمسية شعرية في وقت تقام فيها مباراة بين فرنسا وإسبانيا ليقول ما هو لافت بالفعل: (أنا من جهتي أفضل متابعة المباراة حتى لو كان من سيحيي الأمسية المتنبي).
فهل كانت كما ذهب القاص والأديب الراحل خيري شلبي (سيمفونية الفقراء)، إذن هي وفق هذه المشتركات تذهب بنا إلى أدباء مشهورين مارسوا لعبة كرة القدم، ويذكر أن الروائي العالمي نجيب محفوظ كان هداف فريقه في مدرسته، ليصبح قلب دفاع الفريق مع تواتر تعليمه، فكان يقول: (كثيرون مما شاهدوني في ذلك الوقت تنبأوا لي بالنبوغ في كرة القدم، وبأنني سألعب لأحد الأندية الكبيرة، ومنها إلى الأولمبياد مع المنتخب الوطني).
ربما في هذا السياق يبدو كتاب المثقفون وكرة القدم أكثر قدرة على تأويل ذلك الشغف الوطني والاجتماعي الذي يحمل الناس على أن تهرع إلى المشاهدة، وكيف إذا كان فريقها الوطني حامل أحلامها وترجمان أشواقها، ولعل هذا السياق أيضاً من يجعلنا لا نرى بمباراة فريقنا الوطني السوري، مجرد استعداد وتأهيل للذهاب إلى مونديال عالمي في موسكو، لأن في الصورة ما هو دالّ.
ونحن نعبر أزمتنا وما نواجهه من حرب كونية علينا، ليصبح كل لاعب هو بمثابة جندي على تخوم الوطن، بل أكثر من ذلك هو جندي بحق وأهدافه في قلب الشباك هي محاكاة لأهداف الجندي العربي السوري، في رسم خريطة الوطن واجتراح الفرح بأطيافه الوطنية، لا اختزال للربح أو الخسارة هنا، لكنه الوجود المستحق على خريطة العالم، وكيف نرسم أهدافنا بأقدام نجومنا الذين أحببناهم، وتوهجوا بالأحمر، ذلك المشتق من دم الشهداء، ومن شقائق النعمان، أولئك مفردات سيمفونية وطنية أعادت الفرح السوري، وأزمنته الجميلة التي جعلت القلوب معلقات تُروى في مقام الحلم، هي الذاكرة إذن تعود لتجعل من كل الدقائق تهفو وتتسارع ويتسارع عقرب الوقت، ليصنع وقتاً لا يشبه وقتاً سواه.
فمن كرة القدم وحقل دلالاتها الخصب، إلى رسم خرائط الفرح، نعبر اللحظة إلى عقد مع الجمال لا يُستنفد، مضافاً إلى الحكايات السورية في الميادين الواسعة، إنها حكاية وطن جَوْهَرَهُ الألم، وفاض على العالم بفرح المعنى وجدارة الوجود، وهي ثقافة الحياة النابضة في كل نسغ أخضر حمل أزاهير تشرين ليرصعها أوسمة على صدر المحاربين، هناك هناك، ففي المركب الفريد ما بين ثقافة وحياة تظل الحكاية السورية مستعادة بغير مقام وبغير تأويل، والدلالة منها خصوبة المعنى وقدرته على توليد غير شكل للفرح، لا سيما ذلك الذي يجترحه السوري في أزمنته القادمة، الآتية من المستقبل.
أحمد علي هلال