ثقافة

شمس القوافي.. في “لا صوت للظل”..!

في سوريالية مفرطة، تبدأ المجموعة الثانية للشاعر “علي الدندح” بالمناداة في انحياز واضح للزمكان الذي شكّل له مجالاً بانورامياً.. وزع فيه كل الرؤى واشتهاءات الشذى..!

لا صوت للظل.. انزياح لفظي وتحول شعري فيه تفاعل مع المعطى الحسي لمجهول  هو النور الكامن بين ثنايا الأوان، ففي مبتدأ الكلام استحضار للدهشة بتلك المفارقة التي تعمّد الشاعر أن يجعل صوتها مبحوحاً عن قصد في مقاطعة واضحة العناوين للسطحي والهش.

يأخذ بيد الظل مرشداً وفاتحاً باب التوظيف لحالة لونية وانعكاس مجازي، يبدأ الشاعر معها بالسير متوجساً، وهو الذي أرخى جناحاً وأوغل في التيه.

في كل شطر باقات دفء تندلع برقاً من شوق.. وهنا، نص إدراكي لخطاب مؤجج بالحوار والحلم المستعر..! فمن بساطة المشهد إلى جرف البحيرة، ينشغل الشاعر بفضاء يجمع فيه مفردات التحليق.. سماء وظل ويقظة صدى.. تفاصيل يتعامل معها الشاعر بلغة شفيفة تخلق سؤال الفضول الغامض.

تدور بعض القصائد حول دائرة الاستفهام في دفقٍ تخيلي.. فكيف للهمس الممتد أن يكون سراباً يشرب ظله دون جهات، ثم يمشي ليتقيأ صدأ الوقت..؟

في بعض النصوص تلميح وإشارات لمكنونات لا يستطيع الشاعر الإفصاح عنها، فراوغ الحزن الكامن فيه وترك للدلالة كلمة الفصل:

أطوي هدب الشمس بظلي المشلول أمامي

ثم يتابع: وظلي.. سيظل يقهقه من بعدي في نزف دماي..؟.

الخيط الواصل بين البداية وحافة الشغف على جرف الميعاد..ما هو سوى تدليل وشرعنة لمقدمة تلتقي فيها المفارق “بخضابها المنذور من وجع الطريق..

هي المسافة الفاصلة التي  يتركها عادة الشاعر للتباهي بخيال ألبسه “الدندح” ثوباً مغايراً وكيف لا..وهو الذي رسم بأصابعه دمعة مشتعلة على  حنين من فارقه..وأقام  على شرف الدقائق مأدبة ورد و”كمشة” ندى مضمخة بدجى الأحزان.

تختلط عناوين المجموعة وتتماهى مع ذاتية تقطّر في لحظة ما تكوينات مائلة للوشوم التي تزين كتف الرغبة..!

في جرحه المنفرد يقول: تعبت من جسد يرمم خرابه/ إن القوافي أنكرت وجهي/ تشكيل بنيوي ضمن إطار التوقيعات التي جاءت بلون المدى المستعر في أحايين كثيرة..وربما أرادها لحظة تكوين لمعطى مكثف يأخد بعداً مكتنزاً.

لا تقترب الأشياء من الأشياء إذا ظل الموعد مقتولاً

وإذا بات الوشم السحري كلون في طيف…!

امتلك علي الدندح مفاتيح العبور ودون استئذان إلى قلب القارئ.. ورسم عناوين النصوص على شكل وهج طفولي، يناغي أقصوصة الحبو إلى رحلة الصبا ومايليها. التي وظّف أدواتها في خدمة النص الشعري بكل تجلياته وانفعاله الحسي والمجازي. سلاسة بعض النصوص حرّكت الساكن، ورتبت حركات الضم وفتح مواسم الوجد. تنوعت العناوين والأفكار..فالقراءة الحقة هي إدراك معاني الجمال وتلقفها بعيداً عن تقييد النص بالضوابط المعروفة.

حقلٌ.. من قمح أحمر

يبغي المنجل قبل أوان البيدر..!

جمالية الشعر في تحليقه وانزياح صوره الدلالية دون تأطير لمفردات باتت جامدة بمفاهيمها. وهنا، يأخذنا “الدندح” ببساطة كأطفال إلى مداره الشعري، ويمسكنا بأيدينا، ويطوف بنا في جولة ممتعة متجردين من ثياب التوجس..فمرة تستوقفنا ظلاله وأوراق الصدى العالقة فيه، ومرة أخرى يستفيض في شرح مفردات الحياة والأنوثة وصوت الشهيد./إنّ الشام لم توهَن عزيمتها، وظلّ المجد للشهدا..!

لا صوت للظل، مجموعة شعرية تحتفي بالوجود على الطريقة “الدندحية”. والدعوة إلى العودة للحلم بحلوه ومرّه.. وبوصفه آخر الملذات..هي لحظات الوقوف على ناصية المرايا في انعكاساتها وصوتها المتعالي..!

لم يستبعد الشاعر أناه عن مسرحه النفسي التي ظللت بعض قصائده، وكأنّ الأمر حوار بين شاعر وصداه..!

هذا القلق الشعري ليس حالة متفردة، ولكن السؤال كيف احتوى قلب الشاعر كل هذي المرايا..؟

سؤال الرغبة ممسوس عادة باشتهاءات البقاء، ومخاطبة البعيد.

إذن، في “لا صوت للظل”، تخصيب للحظة واحتواء حروفها جملة وتفصيلا…!

اجتمعت العناوين بمفرداتها وولعها على قول واحد، هو البوح المتنامي في عبور متقارب أحيانا.. ولا تخلو من قفزات وشطحات عاطفية وتحديداً عندما يترك للواعج النفس بالقول دون مواربة..إذن هي صحوة الشاعر وإشارة تنبيه للمناسبة التي تنوعت ونمت ثم ترعرت فأنجزت.

تتماهى بعض السرديات مع الحكمة التي تحتاج إلى من يقرأ في حضرتها مرج النجمات..

مفردات صاخبة ملونة، وحكاية شعرية متراصفة الثيمات، وإيعاز بتحديد جهات التعرف والنظر إلى استنباط جهة خامسة شديدة البلاغة:

/من يرغب في الحلم الأمثل، مجبورٌ أن يبقى مغموراً حتى ناصية الشوق بلحظة تيه..!

ثراء مفعم بالجدوى.. يقتنص الشاعر على الدندح اللحظة المواتية المؤثرة ويغرف من تقاسيم المخيلة قمح القوافي، ثم ينثرها على متون التلقي مراهناً على ذائقة المتلقي.

في احتفائه، زبد يلهث خلف النشوة يتبع ظل القمر..علاقة وتمازج ورسم عابر للرهان بكل حذافيره.. وهناك اعتراف واضح بأن قصائده هي أحزانه المنتقاة.. وهذا سؤال الجواب المكثف بهمسة وصل، وصراخ دلالي مسكون فيه منذ ألف وجع. وهي مكاشفة وبنية إيقاعية مزنرة بألف زخة رعش../ ما أجمل أن يهطل ورد الأحلام علينا دون طقوس.. إذ لا صوت لظل أبداً..!

المجموعة صادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب في 107 صفحات من القطع المتوسط.

رائد خليل