ثقافة

( شاعرات قصيدة النثر )

من اللافت أن لقصيدة النثر الكثير من العشاق الذين ينتجون بها نصوصا على درجة بالغة الأهمية منذ الرواد والى الآن. ويعود الفضل في ذلك إلى مواهب شعرية مخلصة لهذه القصيدة. وفي هذه الدراسة سأختار خمس شاعرات اعتقد بأن لديهن نصوصا عميقة ومدهشة.

النص الأول للشاعرة ملك صالح.

“ما بين انتظاره وعودتي/ عرش الياسمين على شرفته/ وما بين انتظاري وعودته/ صحراء قاحلة/ وليل لا ينتهي ”

ما يميز هذه الومضة يكمن في العلاقة المرتبكة بينهما، المجسدة في الصورة المتقابلة المتوترة: هو وهي، كل منهما في طرف، والعلاقة بينهما المحمولة على وتر الانتظار، والعودة المنتظرة. وفي هذا الانتظار الممتد بينهما نكتشف أنها رمز للخصب والحب والطمأنينة، بينما هو رمز للجدب، والتصحر، والانتظار الذي لا عودة فيه. هي تمثل الامتلاء بينما هو يمثل الخواء. نحن أمام ومضة مكثفة مشحونة بالمعنى الضمني الذي يشف عن امرأة مقدامة تتقدم وتنشر عطرها لترميم الشرخ، لكن المفارقة أن الرجل يبتعد.

وفي الومضة التالية للشاعرة ملك صالح أيضا نجد الدهشة والدخول إلى عمق الأشياء:

“الياسمينة وأنا/ ربما نكون الأكثر حظا/ فكلانا يعانق الأرض في سقوطه/ بلا صوت، ولا صدى/ فقط ضجيج أرواحنا الصامت/ يعبر هذا العالم بهدوء”

لدينا صورة متقابلة: هي والياسمينة، والناتج عن هذه الصورة، قصيدة ومضة مكثفة ذات نهاية مدهشة. وتنبع أهمية هذه الومضة من التشابه بين الياسمينة والذات الشاعرة. كلاهما رمز للأنوثة، وبسبب حياء الأنثى، لا تبوحان، يلفهما الصمت. لكن في هذا الصمت نجد أقصى درجات البوح. أما الرسالة الضمنية تكمن في العودة للآخر لفهم سر العلاقة بين الأنثى والياسمينة. كلاهما لا تتركان إلا الأثر الطيب.

وحين نقرا قصيدة الشاعرة لبانة الجندي سنجد نبرة الاحتجاج العقلانية على العقلية الذكورية:

“دعني خارج مملكتك../ لن أتجاوز حد الحب/ سأحرسه/ من كل عين/ لن ادخل حرمك/ لكنني/ في انتظار دائم../ لمرورك/ لروحك../ تبعث في الدفء../ فالبرد شديد”.

في هذه القصيدة القصيرة صورة ضمنية للعلاقة بين الرجل والمرأة. هي تريدها علاقة حب سوية مبنية على أسس سليمة، بحيث تكون مستعدة للدفاع عنها وحمايتها. لكنها في المقابل ترفض العلاقة التسلطية للعقلية الذكورية التي تأسر المرأة في عالم الحريم. مثل هذه العلاقة مرفوضة من قبلها، لأن ما تريده أعمق من ذلك حيث يكمن في الندية، أي علاقة رجل وامرأة. لذلك تعلن الشاعرة لبانة الجندي في الخاتمة المدهشة رسالتها للرجل: هي بحاجته ولن تتخلى عنه، وهي من دونه جسد بارد. هي تنتظره بكل شوقها إليه لكن يجب عليه أن يتذكر شرط الحب، وهو أن لا يدخلها في الحرملك، وتكون العلاقة بينهما مجرد علاقة بين ذكر وأنثى.

وعند الانتقال إلى قصيدة الشاعرة نجوى هدبا، نجد قصيدتها مكرسة للانا المشغولة بالهم اليومي.

“أنا سيدة بيت خرقاء/ تحاول أن تطهو التعب لصغارها/ فيخونها اللهب/ وهي تحرك قدر الحصى/ تعدهم بأمير سخي يطرق بابهم/ ولا  يجيء/أنا سيدة بيت خرقاء/ يحلم أطفالها بثياب عيد/ لكنها تخبئ  عنهم الروزنامة/ وتوهمهم بعيدٍ بعيد/ سيدة بيت خرقاء أنا/أعد الشاي بلا سكر/ أضع أصابعي لتحرق انتظارهم/ أوهمهم بحلاوة فائضة/ ثم أعض العشرة على ندم”

من الواضح أن هذه القصيدة مبنية على التناص، لكنها في هذا التناص تذهب إلى ما وراء الحكاية المعروفة بحيث تبني حكايتها الخاصة في قصيدة تلخص ألم الأم دون أن تتحدث عن الألم. أم تعاني ولا تستطيع تقديم شيء لأطفالها. أم ليس لديها سوى الوعود المتكررة التي لا تنتهي، ولا تستطيع تحقيق أي منها، ولا من معين لها. والنتيجة أحلام مؤجلة، ولا شيء سوى الوهم،لذلك يأكلها الندم. لكن ما تشف عنه هذه القصيدة يكمن في المعنى الضمني الذي يشي بالخلل في العلاقات بين الناس، والعزلة، وبقاء الإنسان وحيدا.

وحين ننتقل إلى الشاعرة هناء العمر، نجدها تبحث في قصيدتها عن روح الشعر:

“البس القصيدة ثوب وجداني/ ومزيج لحمي ودمي/أهبها خطى العارف لتسلك/ دروب التجلي!/ جناحاها من ثوب شفيف/ يطوفان ما بين الأفلاك/ تكشف أنوار الغيوب/ كصوفي جليل!/ وحينما أموت…/ولاااا تموت!”.

للوصول إلى روح الشعر، تقوم الشاعرة هناء العمر بشحن قصيدتها بأعز وأغلى ما تملك: وجدانها، ولحمها، ودمها. كل ذلك لتهبها خطى العارف، هذا الذي يطوي المسافات ويختزل الزمن، ويقدم النبوءة. إن قصيدة بهذه المواصفات لا بد أن تكون كاشفة لما خفي عنا. وقصيدة تحمل هكذا مزايا لا بد أن يكتب لها الخلود لأنها مشغولة بجوانيات الذات الشاعرة، وهنا تكمن الدهشة.

وأخيرا إذا انتقلنا إلى الشاعرة سلام تركماني سنكتشف ما هو مغاير للعلاقة مع الرجل:

“في الذكرى الألفية لمولدي في قلبك/ احترت ماذا أهديك/ فأنا لا أملك إلا فرحي بك”

هذه الومضة مكتوبة بلغة الشوق. بلغة مشحونة بالطقس الرومانسي. أما التكثيف هنا فهو اختزال لزمن طويل، لعلاقة عميقة تقمصية، أي علاقة متجددة. والاهم في هذه الومضة يكمن في اللهفة المتمثلة في الحيرة بالهدية التي ستهديها له، والتي لن تكون يروى فرحها به. وبالتأكيد هذه أجمل هدية.

عماد فياض