نشأت الزعبي.. لوحات غير قابلة للاستنساخ
وفاة والدته في سن مبكرة من طفولته جعلته يبحث عن خلاصه بمتابعة الأشكال أينما وجِدَت بشكل لاشعوري، وقد وجد ضالته في بيته الحموي القديم الذي حفل بتلك الأشكال التي كان يقوم برصدها ورسمها، لذلك لا يذكر الفنان نشأت الزعبي نفسه إلا وهو يرسم، ففي الرسم كان خلاصه.
ندوة تكريمية
ولصدقه الذي عُرِف به وتمثله في لوحاته التي رسمها وما زال توافد جمهور كبير إلى مركز ثقافي أبو رمانة لتكريمه كإنسان أولاً وكفنان ثانياً، وذلك من خلال الندوة التكريمية التي أقامتها مديرية ثقافة دمشق بالتعاون مع اتحاد الفنانين التشكيليين الذين وجهوا تحية للفنان نشأت الزعبي عبر المعرض الذي أقيم على هامش الندوة وشارك فيه نحو 40 فناناً تشكيلياً.. وأكد معاون وزير الثقافة المهندس علي مبيض الذي افتتح المعرض أن الزعبي قامة فنية هامة في الحراك التشكيلي السوري، والوزارة حريصة على تكريم مثل هذه القامات انطلاقاً من حرصها على حفظ نتاجاتهم.. من هنا فإنها اليوم وبتوجيهات من وزير الثقافة محمد الأحمد تعمل بشكل جدّي وبالتعاون مع محافظة دمشق على إقامة متحف للفن الحديث لتوثيق جزء من ذاكرتنا الفنية .
الفنان الصادق
وفي قراءة لتجربة الزعبي بيّن د.عبد الكريم فرج الذي شارك في الندوة إلى جانب الفنانين د.محمد غنوم وموفق مخول أن الزعبي ومنذ أن كان في المدرسة الإعدادية ومن ثم الثانوية ظهرت موهبته الإبداعية التي لمستها وزارة التربية آنذاك، بدليل التقديرات والجوائز التي نالها، والشيء المهم برأيه أن وزير التربية والتعليم المصري آنذاك اطلع على أعماله أثناء زيارته لسورية قبل قيام الوحدة بين سورية ومصر، فأعجب بها ومنحه مقعداً للدراسة في كلية الفنون الجميلة في القاهرة، وحين تخرّج عاد إلى دمشق 1964 وفازت أعماله بتمثيل سورية في معرضين دوليين في الهند ومصر، موضحاً فرج أن الزعبي رسم بيئته الريفية ببصره ومهجته، وكان مشروع تخرّجه الحمّام الشعبي في حماة تأكيداً على توجهه الحقيقي في الفن نحو البيئة الشعبية التي منحها انطباعاته وإحساسه بشكل لا يجاريه أحد، واستطاع بخيال واسع وعميق تجسيد الواقع المرئي بشمولية بعيداً عن التصنع والتفاصيل الزائدة وبعيداً عن الزخرفة، فدخلت رسومه في أفئدة المتلقين، مؤكداً فرج أن الزعبي كان مرجعاً ولا زال لزملائه الفنانين، وقد أدهشتهم لوحاتُه ببساطة ألوانها وابتعادها عن البهرجة وعمق تأثيرها الوجداني، فكان رسول الإحساس والتعبير بريشته، منوهاً إلى أن منهج الزعبي في فنِّه الإبداعي بمثابة عقد اجتماعيّ بينه وبين بيئته وناسها، فكانت جماليات لوحته تنبع من فطرة معطاء، فمناظره الطبيعية تشبهه بدماثته وهدوئه وتوازن رؤياه، ووصفه بالصادق وفنان من الصعب تقليده لأن الصدق مرتبط بالشخصية ولا يمكن تقمصه إذا لم يكن موجوداً بالأساس لدى صاحبه.. من هنا فإن لوحاته غير قابلة للاستنساخ، مشيراً فرج كذلك إلى أن الزعبي نجح عبر لوحته في أن يخلق حواراً بينها وبين المتلقي، إلى جانب قدرته الكبيرة في خلق مفهوم متطور للفن الشعبي الذي انطلق لديه من فطرة مثقفة وحضارية، فعبَّر عن كل القيم التشكيلية التي تبني مستقبل جديد للفن الحديث على أساس قاعدة الفن الشعبي والبيئة التي ينتمي إليها، فقدم بذلك فناً يشبه توازنه وصدقه ونبله وإحساسه العالي بالأشياء.
دقة الصائغ
وبما كتبه الناقد طارق الشريف عن الزعبي في مجلة “الحياة التشكيلية” عام 1985 بدأ د.محمد غنوم مداخلته فقال: “اختار الزعبي مَشاهده من الطبيعة، ولجأ إلى حذف بعض الأمور العرَضية، مستبقياً ما هو جوهري في نظره، وأبرز بعض التفاصيل والدقائق التي رشح الطبيعة لها ودمجها مع عناصر مختلفة، واستنبط منها لوحة واحدة”.. ورأى غنوم أن كلام الشريف يلخص تجربة فنان انطلق من الأحياء الشعبية معتمداً الواقعية بدايةً لتجربته، وخَبِر التجريد فقدم لوحة شاعرية تتداخل الألوان لديه فيها بحسٍّ مرهف، وتتآلف الخطوط بيده الماهرة، مستخدماً فيها الرموز التي أحبها بدقة الصائغ، وقد حملت لوحاتُه الكثير من الفهم للمنمنمات العربية، فقدم عالمه الشاعري الذي يكشف عن تنوع المصادر وتداخلها، وعن قدرة على التعبير الخاص، ليقدم لنا لغته الخاصة التي تشي بثقافة واسعة يتمتع بها الزعبي وهي ثقافة -برأي غنوم- لا تعتمد الكتب فقط بل معرفة الحياة لأنها الثقافة الحقيقية، مؤكداً -وهو الذي يعرفه منذ 15 سنة من خلال كلية الهندسة المعمارية- أن معرفة الزعبي مكسب لأي فنان وهو الذي عاصر جيل فائق دحدوح ونذير نبعة وأسعد عرابي الذين تابعوا مسيرة الرواد في الحركة التشكيلية السورية، والأهم برأيه أن ملامحهم العروبية والمحلية تجلّت في نتاجهم، لأن معظمهم درس في مصر وسورية.. من هنا كانت خصوصية الزعبي التي تنبع من تأثره الشديد ببيئته التي أخلص لها، منوهاً إلى أن الزعبي أثر في جيل من الفنانين لأنه امتلك مفردات تشكيلية خاصة في تبسيط الشخوص والطبيعة ودمجهما بشكل ملحمي، موضحاً غنوم أن الزعبي لم ينقل الطبيعة بل تمثلها بكل مفرداتها.
وأشار غنوم إلى تواضع الزعبي الكبير وهو الذي يحترم كلَّ جديد ويتقبّل الآخر ويشجع التجارب الشابة بصدق دون تملّق لأحد، وهو الوفي إلى أقصى درجات الوفاء والمتابع للحركة التشكيلية في سورية والمواظب على متابعة التظاهرات الفنية وقد خسرته كلية الفنون الجميلة فناناً وربحته كلية الهندسة المعمارية مدرِّساً وفناناً.
مدرسة إنسانية
كما أثنى الفنان موفق مخول على فكرة تكريم الفنانين التشكيليين، مؤكداً أننا إن لم نكرِّم بعضنا فلن يكرمنا أحد، مشيراً إلى أن الزعبي إنسان عظيم ومدرسة للحب، غاب خارج البلاد لسنوات طويلة انقطع فيها عن الرسم، وحين عاد، عاد ومعه مخزون ملأه بسرعة، فكان مدرسة إنسانية واستطاع أن ينشر الحب عبر لوحاته، فقدم تجربة يستفاد منها، وهو من الشخصيات التي نفتقد إليها في مشهدنا الثقافي بصدقه وشاعريته وإخلاصه لما يقوم به كمدرس وفنان.
في حين بيّن الفنان أنور الرحبي أن الزعبي فهرس تشكيلي عربي يستحق كلَّ التقدير، وقريباً ستصدر وزارة الثقافة كتاباً عنه من تأليفه.
كما رأى الناقد سعد القاسم أن الزعبي فنان سوري تفخر الحركة التشكيلية بتجربته وتواضعه وشدة تهذيبه .
وبدا الفنان الزعبي سعيداً بتقدير زملائه له ورأى أن تكريمه هو تكريم لزملائه الفنانين، مبيناً أن تجربته كان شعارها الصدق والإخلاص، وتحدث عما تمتلكه سورية من فنانين كبار، بعضهم رحل وترك وراءه ثروة وطنية، وبعضهم ما زال يعمل، مثنياً على كلام معاون وزير الثقافة بضرورة إنشاء متحف للفن الحديث لحفظ ثرواتنا الفنية التي نمتلكها، ولحمايتها من الضياع، مبيناً أن النقد كان دوماً إلى جانبه وتفهّم تجربته ولامس ما يريد التعبير عنه، وأن العنوان العريض لتجربته كان الاحتفاء بمظاهر الأشياء، منقباً بذلك عن الحقائق الشعورية بداخله، فالأحداث عنده لا تمر مروراً عابراً أمامه ولا بد من أن يتفاعل معها ليعبِّر عنها بصدق تتوازن فيه العاطفة والهندسة.
أمينة عباس