ثقافة

 الخراف المهضومة

يمكن لعبارة الفرنسي بول فاليري الليث عبارة عن الخراف المهضومة تكثيف مجمل العمليّة الكيميائيّة الإبداعيّة  بتجلّياتها النّصيّة بإحالتنا إلى سؤال جوهري يتعلّق بالتّناصّ هو: هل النصّ الجديد الذي ينشئه الكاتب، جديد حقّاً؟ أم أنّ هاضم النّصوص “النّاصّ” وعطّار خلائطها هذا، ليس إلّا مجرد صائغ آخر لفلزّات الكلمات وقلائدها المرميّة في العتمة والجوار، وهي تتدلّى من شفقِ الصّباحات ودوالي الكينونة الماطرة.

حقيقة لو استطاع كلّ كائن الاحتفاظ  بطزاجة دهشته الأولى القائمة على  التّساؤل والكشف والمباغتة  لكان الجميع مبدعين. لكن تبقى حساسيّة المبدع  الخاصّة هي وحدها من تلتقط بمجسّاتها الرّهيفة موسيقا  شذرات الوجود ومفرداته المنهمرة في باحة الحدس والرؤية، بنباهة يفتقدها الكثيرون. إلى جانب تحلّيه بميزة الفضول المعرفيّ والقراءة الكثيفة المتنوعة التي تفتح أمامه الآفاق الجديدة مقلقة بدورها مناطق البور والعتمة فيه، والتي نجحتْ طبيعة الحياة الاستهلاكيّة بإبقائها خاملة لدى الآخرين. فالإبداع هو خلطة ماهرة تستعين بقوى العتمة والنّور معاً، ثمّ تحتكر كلّ شيء لنفسها فيما بعد. لكن إذا شئت، فارمِ كل ما سبق قوله وراءك وابدأ مغامرتكَ بهمّة حاصدٍ لا يعرف الكلل. وعودة إلى جوهر موضوعنا نقول: مهما اختلف جنس “النصّ” المبدَع  فسيكون عبارة عن مجموع الحوارات والتفاعلات التذويبيّة للنّصوص المختزنة والمجترّة والمتمثّلّة والمحوّلة في مختبر المبدِع؟. وإذا كان كذلك، بإجماع العديد من كبار المنظّرين /تودوروف، كريستيفا، جينيت، بلوم، ومنهم باختين/ فلماذا تنغلق مقولة الناقد الروسي  باختين على نفسها زاعمة وجود عتبة ثابتة، معلّقة في الفراغ لا تنتمي إلى ما سبقها من العتبات، حين يتحدّث عن  نصّ “آدم التوراتي”؟ قائلاً: إنّ (آدم هو الوحيد الذي يستطيع أن يتجنّب تماماً إعادة التوجيه المتبادلة فيما يخصّ خطاب الآخر الذي يقع في الطريق إلى موضوعه. لأنّ آدم كان يقارب عالماً يتّسم بالعذريّة، ولم يكن قد تُكلم فيه، وانتُهكَ بوساطة خطاب الآخر) .ألا تصل بنا هذه الرؤية “الدوغمائية” إلى رؤية متحجّرة تخلق شموليّتها التي لا يصيبها الباطل، ككلّ فكر دائري يجاهر بالعلميّة والعقلانية وما هو بذلك. والتي قامت بالأساس على نفي الشموليّة ونفي وجود نص جديد بدون جذور. هذا الموقف المتناقض يشبه مواقف أتباع الحداثوية والقومجية، والإسلامويّة والماضويّة المتطرّفة؟. والغريب أنّه حتى “النسبيّة” التي حاولت إلغاء الشّموليّة في نظرتها للعالم، وُجِدَ  من يتحمّس لتحويلها إلى نسبويّة أقرب لشموليّة جديدة رغم أنّها تدّعي نفيها المطلق لكلّ شموليّة. وهذا ما جعل مفكراً ناقداً  مثل “تودوروف” يقول عنها: (عندها كلّ شيء نسبي إلّا مذهب النسبيّة ، فهو شمولي!). فالنسبوية تتنكّر لوجود الحقائق رغم وجودها في القوانين العامة والقواسم المشتركة بين الظواهر وفي الواقع الموضوعي.. الخ.. ثمّ ألا ترتكز الرؤية العقلانيّة والنظرة المنطقيّة المتوازنة في فهم الظاهرة العامة والخاصة وتقاطعاتها على الشامل والنسبي وما بينهما من أسس مشتركة، “أليس الشامل هو أفق التفاهم” كما قال تودوروف، ثمّ ألا يمكننا مقاربة الشّمولي بشكل ما بأنّه: مجموع تقاطع نسبيّات الظواهر وتجلّياتها؟. ثمّ كيف يمكن أن يتقدّم العلم وتؤسّس المنظومات الفكريّة المتكاملة إن لم تحوز على العموميّة والشموليّة؟. وبالعودة إلى أسطورة التوراة بأنّ نصّ “آدم” التوراتي لا يسبقه أي نصّ، فإنّه أصبح من المعروف للمطّلع الحقيقي بأنّ أسطورة الفردوس السومريّة “ديلمون” تكمن في أساس القصة التوراتية، وفيها جنّة الآلهة التي تجري من تحتها الأنهار، وفيها يأكل “أنكي” من النّباتات المحرّمة وتنصبّ اللعنة عليه نتيجة فعله هذا، وثمّة امرأة تدعى “تين ـ تي” ومعناها “حواء” أو “السيدة التي تحيي” ومعناها “سيّدة الضلع” وفيها قصّة عن الضلع تعتبر المصدر التفسيري لتكوين حوّاء التوراتيّة من ضلع آدم، وفيها ذكر للرّبات اللّواتي يلدن من دون ألم وعناء يوضح خلفيّة اللّعنة على حوّاء التي سيكون نصيبها الحبل والولادة بالألم. وحين يقول  مفسّر النص الإسلامي بأنّه قد كُتب لكلّ زمان ومكان، بما في ذلك اجتهادات الصّحابة ـ التي سعت بمرحلة ما إلى توسيع فهم النصـ  وهو في الحقيقة عبارة عن نص ثقافي تاريخي كُتب كأجوبة  لأسئلة  تتعلّق بمرحلة ما من مراحل تطور المجتمع القبلي. محرّماً البحث بقضايا ه الدنيوية، كشأن تحريمه النقاش بالقضايا اللاهوتية. التي لو نُوقشتْ من منظور فلسفي ومعرفي متطوّر لاتّسع فهمها أكثر من تلك الطريقة التي حصرتها بغيبيّات ومسلّمات وبديهيّات لا تُساهم إلا بإغلاق النصّ ومنع إثرائه برؤية وفهم جديدين. كلّ ذلك أوقعنا في مطبّ الرؤية  الـ “دوغمائية” التي أدّتْ  بنتائجها إلى الكوارث الاجتماعية الانفجاريّة الحاصلة  بمجتمعاتنا الإسلامية الآن، بعد أن عُميتْ العيون عن كلّ جديد وبات التناقض مدويّاً بين فهم النص والتطوّرات الهائلة حوله في كلّ مناحي الحياة الفكريّة والاجتماعيّة والثقافيّة والعلميّة.

وخاتمةً نقول: حتى  أسطورة “ديلمون” وكلّ الأساطير السومرية ليستْ هي النّصوص الأولى، التي لا تدخل في أيّة علاقة تناصيّة نصوص سابقة، بل هي كما  يقول كريمر: (أنّ كتاب الأساطير السومريين كانوا على العموم الورثة المباشرين للمغنّين والدّجّالين الأميّين من أقدم الأزمان، وكان هدفهم الأول هو تأليف القصائد القصصيّة عن الآلهة التي من شأنها أن تكون جذّابة وملهمة ومسليّة). هكذا هي الأمور أشبه بحلقات معرفيّة متواصلة، تنكّسر كلّما ضاقت على نفسها ولا تنغلق إلّا مع الذّهنيات المنغلقة التفكير، بينما دورة الحياة اليانعة هي عبارة عن صيرورة فصول متعاقبة،  قائمة بجوهرها على الانفتاح، القابل للتجدد الدّائم.

أوس أحمد أسعد