بين الكتاب الورقي والكتاب الإلكتروني..أين هو القارئ؟
رغم الحديث الدائر وبكثرة عن تراجع فعل القراءة عربيا من الكتاب مباشرة، باعتباره صاحب المرجعية الأصدق والمعلومة الموثقة بضمانة مبدعها أو ناقلها أو مترجمها، ورغم الإقبال الهائل على عالم التكنولوجيا الرقمية المتطورة والاتصالات الكونية بما توفره من منصات افتراضية تسميها الشركات المنتجة لها مجانا –رغم طابع هذه الشركات البرجوازي وحقيقتها البرجوازية أيضا حتى النخاع- “منصات التواصل الاجتماعي” التي صارت بما تحمله من صفحات الكترونية يسهل تصفحها في أي مكان، ثم الملل السريع من تقليب تلك الأوراق الحيادية، الباردة، التي لا ملمس لها ولا رائحة، هي من يُقبل عليها عموم الشباب العربي لينهلوا منها معرفتهم– هذا في حال أقبلوا فعلا على الكتاب لا على غيره من الشؤون التي تشغل بال هؤلاء الشباب-، التي يريدون أن يواجهوا بها هذا العالم الذي لم يتدخل بأي طريقة في صياغة خطوطه العريضة والدقيقة وفق بعض ميوله وطبائعه –اقصد العالم الافتراضي-، وفيها ما فيها مما يُقرأ ومما لا يمكن وصفه حتى بالصالح للقراءة العمومية، فهذا العالم الافتراضي وإن كان سمة هذا العصر، إلا أنه مهدد بالانهيار في لحظات، بحيث يصبح كل ما هو افتراضي غائب في مجاهل لا أحد يعرفها، ولا يمكن التنبؤ بمستقبلها، وليس لنا أن نصدق على كل حال أن سلعة مجانية ما، تأتينا من الغرب مجانا، إلا ضمن إطار أنها ليست مجانا أبدا، وهذا حديث آخر.
إلا أن ثمة شريحة واسعة من قراء الكتب محليا وعربيا، لا زال الكتاب هو صديقها الصدوق، وخير جليس لديها،هؤلاء ورغم أنهم يبدون كأنهم من عصر آخر، إلا أنهم أصحاب هموم مع عالم الكتاب، ليس أولها أسعار الكتب المرتفعة الآن، والتي ليست في متناول الجميع، حتى تلك التي تباع على الأرصفة، لم تعد أسعارها رحيمة بهم، عدا عن قلة تنوع الكتب التي كانت موجودة سابقا، والتي كانت تبدو وكأنها نوارس بيضاء، تفرد أجنحتها على سور المتحف الحربي، ولن يكون آخرها تحول بعض دور النشر إلى “دكاكين”، وليصبح نتاجها باختلاف نوعه الفكري وسواء كان محليا أو مترجما، هو أيضا يتبع لمفهومها عن فكرة أن الكتاب نتاج “دكاكنجي” إذا صح التوصيف حسب ربط الحالة بمسمى المثل اللفظي.
السيد إبراهيم وهو أستاذ متقاعد، يشكو صعوبة ترميم مكتبته التي فقدها في حلب، “ما جمعته طوال الـ 70 عاما التي مضت من كتب مختلفة ونادرة ومجلات فكرية وثقافية كانت في زمن مضى هي شبابيكنا على العالم، هكذا ذهب بلمحة عين” وعندما حاول الأستاذ العتيق البدء بعناد الشباب إعادة ترميم مكتبته، من خلال شرائه للكتب التي يحفظ عناوينها وأسماء مؤلفيها وسنة صدور النسخة الأولى منها، وكم عدد صفحاتها ومن هو المترجم الأفضل لهذا الكتاب مثلا بعد ظهور عدة نسخ مختلفة الترجمة له، وغيرها من التفاصيل التي لا ينتبه لها عادة القراء، “وجدت نفسي أضع أكثر من ثلثي راتبي التقاعدي، ثمنا للكتب التي اشتريها في كل مرة أذهب فيها إلى المكتبات لشراء بعض الكتب كل مطلع شهر” ورغم ذلك ورغم السنوات الأربع التي واظب فيها الأستاذ على إعادة الألق إلى مكتبته المنزلية، إلا أنه لم يستطع أن يقتني 1% مما كان لديه “ليس لدي وقت محدد للقراءة، والمشكلة أنني أجد فروقا عديدة بين العديد من الكتب التي قرأتها ماضيا، وعدت واقتنيتها ذاتها ولكن بطبعات جديدة، فقرات كاملة مختفية، غياب كامل للكثير من الكتب التي شكلت وجداني ووجدان القراء لقرون خلت، ورغم كوني لا أصرف إلا على حالي بعد أن هاجرت ابنتاي، إلا أنني لم استطع أن اشتري إلا القلة القليلة من الكتب التي أردتها يوما أن تكون كنزهما وكنز أحفادي، لكن يبدو أنه لن يحدث”.
الأستاذ إبراهيم ليس مؤمنا بالكتاب الإلكتروني: “أولا لا طاقة لي أن أجلس ساعات طويلة لتحميل هذا الكتاب أو ذاك، هذا عدا عن كون هذا العالم متاهة حقيقة لمن هم مثلي، وأحيانا كابوس ملون-قالها وهو يضحك-.
المكتبات الرقمية التي تعد القراء بالقضاء المبرم على الكتاب الورقي، باتت تحتل كل حيز، وفي هذا من يجده جيدا، لسرعته في تأمين الكتاب الذي يريد، وهناك من يجد الأمر كما أسلفنا أنه بلا روح، ولا ينتمي للعالم الذي يخصنا ويعنينا ونعرفه على الأقل، عن هذا تقول الآنسة “سلمى” التي أدارت مكتبة والدها بعد وفاته “قضى والدي عمره كله في هذه المكتبة، أنشأ أسرة وربّى ستة أولاد وعلمهم من خيرها وعمله فيها، لكنني الآن أجد صعوبة في تأمين حتى المواد اللازمة للاستمرار، وكأن الناس لم يعودوا مهتمين بشراء الكتب، كلٌ لديه هاتفه أو جهازه المحمول، الذي يحوي آلاف الكتب، فما الذي يريده من الدخول إلى مكتبة ليشتري كتابا؟ أساسا نحن شعب لا يقرأ سواء من كتاب ورقي أو الكتروني، لكني أعرف تماما ما تعنيه القراءة من هنا ومن هناك، الكتاب الورقي يخلق علاقة خاصة مع القارئ، بحيث يصبح وجوده بحد ذاته وجودا عزيزا، لن تذهب به أبدا إلى سلة المهملات كما يحدث مع الكتاب الرقمي، عدا عن الطقس الذي تنتجه هذه الحالة الحميمة مع الكتاب، والتي لا يمكن أن يصنعها الكتاب الرقمي طالما أن ثمة “نوافذ” تقفز إليك من كل مكان وأنت تقرأ، أيضا الكهرباء والبطاريات والشحن، وكأن هذا العالم ينقصه فوضى ستصنعها مخلفات لم تكن موجودة سابقا”.
بالتأكيد هناك من سيجد ضالته في الكتاب الورقي وهناك من سيجدها في الكتاب الالكتروني، ورغم انحسار تيار أنصار الكتاب الورقي، لكن هذا لا يعني امتداد وتوسع تيار الكتاب الرقمي، فالحال أن القراءة برمتها هي المتراجعة وبشكل مهول بين الفئات الشابة بشكل خاص محليا وعربيا، ولكن يبقى لدينا –اقصد في سورية- انحيازنا الواضح للكتاب الورقي، إن كان في مدارسنا وجامعاتنا ومعاهدنا، وحتى في بيوتنا، التي نادرا ما تجد بيتا منها يخلو من بضعة كتب فوق رفٍ ما، أو في درج هنا أو هناك، وجل ما نتمناه أن لا يتحول الكتاب إلى رمز فلكلوري، يحتفى به رمزيا مرة في العام، ثم السلام، دعونا نعتبرها أمنية شخصية وعامة أيضا.
تمّام علي بركات