ثقافة

جـرعـة زائـدة

توقف قلبه مع صافرة الحكم التي أعلنت خسارة منتخبه المفضل والذي قضى شبابه وهو يشجعه ويتابع أخباره ويلصق صور لاعبيه على مساحة كبيرة من حيطان غرفته.. لم يحتمل صدمة جديدة بعد أن علّق أماله على حبال الفوز والانتصار ولم يتقبل فكرة أن يفرح ندّه في اللعبة أو أن يحتفل علانية وبصوت عال مطلقا عبارات السخرية والشماتة. ما هي إلا ساعة ونصف من الزمن, لكنها كانت كافية لتضغط على قلبه وتخنقه.. المشجع المتعصب لفريقه.

خبر وفاته لم يصل عاديا إلى مسامع شركائه من الجمهور, بدا سخيفا للبعض ومحزنا للبعض الآخر.. أن يموت الإنسان هكذا بعد سبع سنوات من الخطر والقذائف والجرائم, أن يتحول إلى جسد هامد كان قبل قليل يشغل الدنيا حياة  وصخباً وهتافات.. لعلها مفارقة غريبة أو سبباً جديداً من أسباب الموت في هذه البلاد المتعبة.

على هامش الفرح أيضا، رصاص طائش في الأجواء يودي بحياة امرأة. إنها اللحظة التي تلت نجاح طالب ثانوي, وعلى حساب فرعه العلمي قضت تلك المرأة، سقطت على الأرض مثلها مثل فرّاغة الرصاص، باردة جامدة ومسلوبة الحياة.

لقد كانت فرصتها في النجاة معقولة لو أن مطلق الرصاصة غيّر اتجاهه قليلا إلى اليمين.. هذه هي نتائج جرعة الابتهاج الزائدة، دائما تقع كارثية على رؤوس المساكين الذين لا ذنب لهم إلا أنهم جيران “المُفذلكين” في هذه الأرض..

قبل سنوات كثيرة اخترع جون أوجست مقياس كشف الكذب أو ما يسمى “Polygraph”، ولطالما سألت نفسي مؤخرا عن مقياس لكشف الفرح، يقيس معدل السعادة ويكشف إن كانت مصطنعة أو حقيقية, خاصة أنها حالة غير طبيعية في هذه الأيام وتهمة يتم تبادلها في مجالس العزاء وزيارات المرضى.. من غير الممكن أن تكون سعيدا في هذه المناسبات والمصائب, وإلا فأنت مشكوك في أمرك وفي إنسانيتك ووطنيتك أيضا.

في الحقيقة إن الجسم البشري لم يعد يحتمل الفرح في هذه المنطقة الجغرافية.. فقدنا تماسكنا أمامه، وغدت أي حادثة بسيطة قد تسبب حالات من الفرح الشديد.. الفرح الذي قد يودي بحياتنا وهذا موضع ذعر نخشى نتائجه، فنحن لا نرغب بالمزيد من الضحايا على خلفية تتعلق بانخفاض أسعار المواد الغذائية أو بتوافر التيار الكهربائي مثلا.. لقد قضينا سنوات طويلة متأقلمين مع كل ما هو غير طبيعي, كيف يمكن الآن أن نعيد ترتيب همومنا ونخفف من بأسنا بما يتناسب مع المستجدات!.

على مر التاريخ عبّر الإنسان عن فرحه، أشعل النيران ورقص حولها، رسم على الحجارة وجعلها تنطق، ألّف الأشعار والحكايات، ذبح الذبائح وأقام ليال من الأنس والطرب، لكنه لم يكن عنيفا في فرحه، لم يبتهج على حساب حياة غيره، لم يطلق الشتائم على جاره المحتفل برأي أو موقف لا ينسجم مع آرائه.. لقد كان لطيفا أكثر, قويا أكثر, لا تهزه الحوادث اليومية العادية ولا نشرات الأخبار على تنوعها: السياسية أو الرياضية أو الاقتصادية.

الأحداث الدراماتيكية لم تتركنا على راحتنا، سرقت الغفوة والأحلام، ركضت ولم نستطع أن نلحق بها، جارت علينا بالعذاب والمرارة حتى صرنا لا نهتز لمشهد دموي  لكننا قد نبكي بسبب خبر محلي عادي يمر مرور الكرام في البلدان المجاورة.

قيل سابقا أن للحزن ناسه, وعلى ما يبدو أن للفرح ناسه أيضا, لذا  أرجوكم أجّلوا أفراحكم قليلا، لا بد أن نعود إلى طبيعتنا، لا بد أن نستعيد هيبتنا أمام الأحداث السعيدة وإلى ذلك الوقت, ابقوا بخير جميعا.

ندى محمود القيم