ثقافة

الموسيقا السورية في إطلالة تاريخية

مرّ على هذه الأرض الكثير من الحضارات والثقافات منذ بدايات الإنسان، حضارات خلقت إرثاً ثقافياً وموسيقياً غنياً لا مثيل له على وجه المعمورة، موسيقا تدق بعمرها عمق التاريخ، وهي ملونة بلغات ولهجات عديدة.. من هنا لم يخفِ إدريس مراد في محاضرته التي ألقاها مؤخراً في مركز ثقافي أبو رمانة أن الباحث في تاريخ التراث الموسيقي في سورية يواجه صعوبات كثيرة لأن الموسيقا أكثر الفنون تعرضاً للضياع، لذلك يضطر المرء إلى أن يعتمد على عدة أشياء ليتعرف على ما تبقى من هذا التاريخ، منها الأدوات الموسيقية المكتشفة والمحفوظة في المتاحف، ومن خلال الآثار المختلفة التي تمثل مشاهد موسيقية، وكذلك ما ورد ذكره من التراث الموسيقي في كتب تاريخ الموسيقا وما تداولته المجتمعات من أقوال وأمثال وقصص وأساطير، إلى جانب التقاليد الموسيقية المتوارثة التي مازالت مجتمعات الأرياف البعيدة متمسكة بها.

أول نوتة موسيقية
وبيَّن مراد أنه عُثِر في سورية على عدد كبير من الآثار القديمة المختلفة المتعلقة بالموسيقيين والآلات الموسيقية، ومن مقتنيات المتحف الوطني بدمشق مثلاً تماثيل فخارية تمثل فرقاً موسيقية، منها ما تتألف من عازفتين، ومنها عازفة ومغنية وأيضاً عازفة وراقصة وتماثيل برونزية يمثل كل منها عازفاً أو تمثالاً مزدوجاً، وتمثال المغنية والراقصة أورنينا المكتشَف في ماري عاصمة الفرات الأوسط بدير الزور، وتمثال صغير من العاج يمثل موسيقية جالسة القرفصاء بيدها آلتها المؤلفة من قرصين كبيرين، ورقيم طيني كنعاني عليه أقدم عملية تدوين موسيقي في سورية وبوق من العاج يُعتَبر من أهم الأبواق العاجية الموسيقية القديمة، وصحن خزفي إسلامي يمثل عازفة على آلة الهارب الموسيقية ورسم جداري مكتشَف في قصر الحير الغربي يمثل موسيقية تنفخ في مزمار مزدوج، وموسيقية تعزف على آلة العود، وجميعها اكتشفت في أوغاريت.
كما تحدث مراد عن مقتنيات متحف حماة وشهبا والرقيم الأوغاريتي، مبيناً أنه في العام 1948 اكتشفت البعثة الأثرية الفرنسية التي كانت تعمل منذ العام 1929 في موقع أوغاريت “رأس الشمرة” القريبة من مدينة اللاذقية مجموعة من الرقم الطينية المكتوبة بخط مسماري، ومنها رقيم مكوَّن من ثلاثة أجزاء مهشَّمة بعض الشيء مكتوبة بحروف مسمارية مدوَّن عليها بعض الرموز لم يُعرف حينذاك ما هو مدلولها، وهذا ما أثار اهتمام علماء الآثار واللغات الشرقية القديمة، ومنهم العالم الأثري الفرنسي عمانوئيل لاروش الذي قام بدراستها وترجمتها، فكانت “أنشودة” مخصصة للآلهة أورخيا، وتبيّن أن الجزء العلوي من الرقيم الفخاري الأوغاريتي كُتب باللغة الحورية نسبةً إلى الحوريين الذين حكموا شمالي بلاد الرافدين وبلاد الشام منذ نهاية القرن الثامن قبل الميلاد مع الميتانيين، حيث شكّلا إمبراطورية حورية ميتانية حتى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، مشيراً مراد إلى أن الجزء المكتشَف كان يحتوي على كلمات يدور محورها حول آلهة نيكال زوجة إله القمر، وتبيّن من ترجمة كلماتها عبارات شاعرية مثل “محبوبة القلب” و”أنت تحملين لهم الحب في القلب” و”إنما منك ولدنا” أما الجزء الأسفل من الرقيم فتبيّن بعد مدة من ترجمة الكلمات أنه يحوي النوتة الموسيقية لهذه الأغنية أو الأنشودة، وهي مدوَّنة باللغة الأكادية التي كانت لغة التداول الرسمي في ذلك العصر في بلاد ما بين النهرين، وفيما بعد تم اكتشاف الكثير من الدلائل لأول نوتة موسيقية في حياة البشرية في أوغاريت.
الأندية الموسيقية السورية
وأشار مراد إلى أن الفنان شفيق شبيب كان أول من أسس نادياًٍ للموسيقا في أوائل العام 1914 باسم “نادي الموسيقا الشرقي” ومن بعده قام الفنان توفيق الصباغ بتأسيس ما يشبه النقابة الموسيقية عام 1927 لتجمع صفوف الفنانين، وفي العام 1930 قامت الشخصية الوطنية المعروفة فخري البارودي بتأسيس النادي الموسيقي الشرقي السوري على أنقاض النادي الذي أسسه شفيق شبيب، منوهاً مراد إلى أنه وفي العام 1927  تأسس أيضاً نادي الكشافة الذي اهتم بمجالات فنية عدة، حيث انبثق منه عدد من الأندية، منها نادي الآداب والفنون ونادي الفنون الجميلة اللذين حفلا بكبار الفنانين من الموسيقيين والممثلين مثل توفيق العطري، عبد الوهاب أبو السعود، ممتاز الركابي، مصطفى هلال، ومن ثم نادي الموسيقا الوطنية لمؤسسه مصطفى الصواف ونادي الفارابي الذي ضم بين أعضائه كلاً من مطيع ونصوح الكيلاني وعثمان قطرية، ومعهد أصدقاء الفنون الذي جمع النخبة من الفنانين الشباب مثل عدنان الركابي والأخوين عصمت ونجدت طلعت وشمس الجندي والأخوين محمد ويحيى النحاس وكامل القدسي وممدوح السمان، ومن ثم تأسس نادي دار الألحان الذي خطف أكثر عناصره من معهد أصدقاء الفنون من أمثال هشام الشمعة وكامل القدسي وشكري شوقي، وبعده تأسس نادي دمشق الموسيقي الذي كان يضم بين صفوفه كبار العازفين والمطربين من أمثال تيسير عقيل، رفيق شكري، فؤاد محفوظ، عمر النقشبندي.
وبيّن مراد أنه في حلب وبفضل الشيخ علي الدرويش وعمر البطش وأحمد الأوبري وكميل شمبير ورشيد ماملي ومجدي العقيلي وغيرهم تأسست عدةُ أندية ومعاهد موسيقية، أشهرها نادي الصنائع النفيسة، نادي حلب الموسيقي، نادي الشهباء الفني، نادي العروبة للآداب والفنون، نادي الجمعية الأرمنية، موضحاً أن باقي المدن السورية افتقرت لمثل هذه النوادي، عدا مدينة حمص التي تأسس فيها نادي دوحة الديماس عام 1934.
أمينة عباس