ثقافة

مرثـــــاة الزمــــــن الغابـــــر

“لو كنت أرتكب جرائم قتل, فهل كان بإمكاني أن أُري الله يديّ الملوّثتين بالدماء؟ سيغسلون أيديهم قبل أن يكشفوها له. يمكن توقّع كل شيء ممكن معهم، هم باسم الله يرتكبون جرائمهم. واليوم بات هناك اغتصابات أيضا. باسم الله تُرتكب كلّ هذه المظالم، فهل حلّت علىّ هذه الفكرة النورانية للتوّ؟ من المحتمل جدّاً, فأنا ما أزال في عزّ شبابي, وقد أضعت أساساً الكثير من الأوهام في هذا العمر الطري، كما أكون قد خسرت أوهاماً أخرى أيضاً. وليلة هذا النهار قد تكون هي الليلة الأخيرة”.
في مطلع الرواية, بيرو, في الخامسة عشرة من عمره، هو يكره أمه, ويهيم بالأكل عند المسلمين, مع انّه من الطائفة الهندوسيّة, وأمه تمنعه من ذلك, وهو في “القصبة”, البلدة الصغيرة في منطقة البنجاب, يمضي معظم وقته حول أمهات أصحابه، جيرانه من السيخ ومسلمون وهندوسيون, وهم يتعايشون جيداً إلى حّد ما,     ما بين ضغائن قديمة وبعض الغيرة. كان ذلك في السنوات الأخيرة من زمن الهند الاستعمارية, وقريبا ستنشأ دولة باكستان, وكانت بدأت تتحرك التوترات الطائفية ضاغطة أكثر فأكثر. عنيفة أكثر فأكثر. هكذا شبّ بيرو في جوّ اضطرابات التاريخ الكبيرة, واضطرابات قصّته الصغيرة. وبعد سنوات, وقع في دوّامة لا تنتهي, إذ راقب لجنة سلام تشكّلت من أجل تفادي المجازر، ثمّ تقلّص الزمن, ورمى بجميع الشخصيّات في اضطرابات دموية في العام 1947.
هنا الناس البالغون, يُعرّيهم الأولاد بأعينهم, ويرونهم يهربون, تعساء أو ماكرين.  هنا ليس المستعمر البريطاني هو العدو، بل الجيران, فعند كريشنا بالدي فايد, وهو أحد كبار الكتّاب باللغة الهندية, الوحيدون الذين لا يستسلمون لمشاعر التقاتل بين الأخوة، هم غريبو الأطوار أيّ المجانين والمراهقون. وما يصنع قوّة هذه الرواية التعليمية هو هذا الفكر المتفلّت والمتحرّر عند بيرو وأصحابه. هم وحدهم يتجرّؤون ليخالفوا محرّمات الجنس والدين, ويلعبوا على الهويات المتحجرة, وهاجس المساءلة هو الذي يجعلهم خطرين وأبرياء في الوقت نفسه, ويسمح ببروز بعدٍ مأساوي– ساخر, حيث يتجاوز صدى الموت مع الفكاهة.
هناك القليل من التفخيم عند فايد, لكن الكثير من التهكّم, ومن الشعر ومن حسّ العبثية.  بيرو, وفيما الجيران يرتكبون جرائم الاغتصاب ويتناحرون, يسأل الإمبراطور حكيم القصبة: “لماذا؟ لأنّ الناس معتوهون أو مجانين.(….) لماذا؟ لأنهم من البهائم. لماذا؟ لأنهم من البشر”.
تختلط أحلام اليقظة بالواقع, ويتخذ الحديث شكل مسرحية, وينعطف صوب مناجاة داخلية, إذ إن “الحقيقة جافة مائة في المائة”, ويجب تجميلها قليلاً.
في رواية “غورا هوا زامانا”, (العنوان الأصلي لها, وهو يعني “الزمن الغابر” باللغة الهندية), التي كُتبت في العام 1881 ونقلت في ترجمة رائعة, شيئاً من فرانسوا رابليه, وقليلاً من هنري ميشو ولمسة من بابلو نيرودا. يبقى أنّ فايد, ومع أن الكثير من نصوصه متوّفر باللغة الفرنسية, هو أيضا ناقل صاموئيل بكيت إلى الهندية, والمطّلع بعمق على الأدب الفرنسي, لم يُعط حقّ قدره هنا, حيث ألِفَ القراء الفرنسيون أكثر الأدب الهندي الأنكلوفوني, وبقي مهمّشاً في بلاده بسبب أسلوبه الذي يخالف الأعراف الأدبية, فاتته جائزة الأكاديمية الهندية بسبب “فكره السيئ”, إلا أن هذه الطاقة الأيقونية والعالمة هي بالتحديد التي صنعت قوته الرائعة.

إبراهيم أحمد