ثقافة

الحاضر أبداً في ماضٍ لا يغيب

تعود الشعوب إلى تاريخها الماضي سواء ذاك الغائر بالزمن، أو التاريخ القريب الذي لا تزال بوارقه مرفوعة وخفاقة، لتحيي ذكرى تلك الجذوة الأولى التي أشعلت نار حضارتها، وهذه العودة الرمزية لتلك اللحظات وما تلاها، هي ليست لمجرد التذكر والتغني بما كان فقط، بل إنها في الحقيقة لفهم الحاضر على ضوئه، وأيضاً بقصد التعلّم من الأحداث المعاصرة التي لها ما يماثلها في الماضي.

وفي الوقت الذي تمرّ فيه البلاد وأبناؤها بما يمرّون به، تبقى شجرة الحياة الواقفة أبدا، محفورا على جذعها الذي يخصنا كشعب من الشعوب التي ساهمت في بناء الإنسان والحجر، العديد من التواريخ التي عبرت بالزمن، لكن أثارها الخالدات باقيات مادام الإنسان باق.

بين تلك التواريخ الثرية المحفورة بأقلام الذهب على جذع شجرة الحياة لوطن عظيم بكل ما فيه، يلمع كشمس مضيئة لا يخبو نورها تاريخ “8-3-1963، التاريخ الذي انطلقت فيه روح الحياة والعمل والبناء الدائرة كما لو أنها حجر رحى عظيم، يدير مقبضه شعبٌ عظيم بيد من جبال، مرّت على الحياة التي صنعها بملء قلبه وعزم يديه، العديد من محاولات محوه وتشويهه، ولكن هيهات، ما لنور شمس أن تحجبه غيمة حقد، يبددها وبكل فخر، واحد من منجزات ذاك التاريخ العظيم، الذي قامت به “الحركة التصحيحية” عندما قام المعلم الأب والقائد العروبي الأصيل “حافظ الأسد” ورفاق النضال، بإعلان قيامة الحياة بعد الخذلان الذي منّيَ به الوطن الأكبر إن كان في التاريخ المشؤوم لـ 1967 وما سبقه من ويلات مرت على أهل الضاد.

وأمام هذا النكران اللفظي من بعض الذين ولدوا وعاشوا وكبروا وتعلموا وهم ينعمون بمنجزات تلك الحركة المباركة يقول الواقع أمرا آخر، ومن بين عظيم تلك المنجزات التي صاغتها تلك الثورة البيضاء بكل ما للكلمة من معنى، انجازان لو لم يكن لحزب البعث العربي إثر ثورة 8 آذار-1963، وقيامه بالحركة التصحيحية  في 16 تشرين الثاني 1970، لكفاه واحد منهما أن يكون حزب الجماهير والشعب بكافة فئاته بحق: إعادة بناء الجيش العربي السوري، بناء عقائديا فكريا، مجهزا بما يتناسب ومعطيات تلك المرحلة التاريخية الحرجة، جيش عظيم، خاض حرب تشرين التحريرية التي قادها القائد المؤسس “حافظ الأسد” محطما مرة واحدة وإلى الأبد أسطورة الجيش الصهيوني الذي لا يقهر، وترويض طيش فتى الفرات الجامح “نهر الفرات العظيم”، بإنشاء سد الفرات على مجراه، وليّ عنقه لتصير مياهه المهدورة سدى في السهول والأغوار، فتاة عاقلة تسير في الجداول وهي تزور الحقول، وهاهو رجل كان يرتحل لأيام عن عائلته لتأمين المياه، يفتح صنبوراً صغيراً في البيت، فتنداح منه مياه الفرات كموال رقاوي يخلب الألباب.

دل الكلام القليل يا سادة على أن الحركة التصحيحية هي حركة لائبة في التاريخ السوري المعاصر، من القاعدة صعودا حتى أعلى العاصفة، فالحركة التي قامت لتصحيح مسارات عديدة في عقيدة الحزب ونهجه، لم تكتف بتأكيدها على أنها بنت الناس بالقول، هاهي أفعالها تدل عليها ولو كره الكارهون.

بنظرة عامة إلى التاريخ سنرى أن كل سلطة استلمت زمام الحكم في زمان ومكان ما، قامت فورا بالعديد من الانجازات العمرانية الباذخة لتدل عليها وعلى زمنها، فهام فراعنة مصر يبنون الأهرام، وهاهم الدمشقيون يشيدون أيقونة الشرق “الجامع الأموي” وهاهو الخليج العربي يبني ناطحات سحاب تسكنها الريح، وهاهو حزب البعث يبني المعامل وينشئ السدود العملاقة ويطوق المدن السورية بالجامعات والمدارس والمعاهد العلمية والفنية وبالمعامل والسدود.

وليس من مجال للمقارنة بين ما كان بالأمس القريب، قرية صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها المئات كقرية “داريا” الواقعة على أطراف العاصمة السورية مثلا، وبين مدينة داريا التي أصبحت قبلة صناعة الأخشاب واللوازم البيتية بكافة أنواعها اليوم.

ولو عدنا بالتاريخ إلى عام 1960، وأجرينا مسحاً شاملاً للبلاد من أقصاها إلى أقصاها  قبل تولي البعث وحركته التصحيحية زمام الحكم في سورية، سنجد أن الريف السوري كان ريفا بدائيا، بضعة تجمعات سكانية هنا وهناك، ومدن هامدة تعيش على صناعات يدوية خفيفة، وجمهور من الناس العاطل عن العمل أيضا. إلا أن هذا كان من ماضي الأيام، فالتصحيح أدلى بعصاه لتبتلع كل الثعابين، وها هي كفه على الناس والشعب، بيضاء دون سوء، ومن أراد أن ينكر لهذا الحزب ولقائده إنجازاته العظيمة، فما عليه إلا أن يعود بالتاريخ للوراء قليلا، وهنا لا نطالبه بأن يقرأ عن مشروع هنا أو افتتاح مدرسة صغيرة هناك، بل نقل له قم وتفضل وعاين بنفسك، تلكم مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا نحن الطلبة، وتلكم معاملنا ونقاباتنا نحن العمال، وذلك فخرنا وعزنا نحن السوريون، الجيش العربي السوري، ما زال رابضا كأسد من نار على بوابة الوطن، يحمي التاريخ الذي صنعه، بالموت تارة وبالحياة تارات. تلكم حركتنا التصحيحية التي تنكرون، فهاتوا بيّناتكم إن كنتم صادقين!.

تمّام علي بركات