ثقافة

أشقياءٌ في غمرة الوفرة

هل صحيح ما تقوله نظرية “ماركوزة”: عندما تأتي الثّورة سيكون لدينا أفضل الناس. أم أنّها مقولة ناقصة تتطلّب الاقتران بمعطيات أخرى لتكتملْ؟ حيث أنّ  مجيء الثورة هو مجرّد حدث موضوعي، لا يغيّر من طبيعة الأشياء ما لم يكن قد تغيّر وعي النّاس ذاته. وبذلك يكون مجيئها تكراراً بائساً لما حدث قبلها وحسب. فكيف سيصنع ثورة من ليس لديهم فكرة عما يمكن أن تكون الحياة الإنسانية الأفضل؟ والذي يجعل الثورة أمراً حتميّاً هو أنّ المجتمع لا يستطيع الاستمرار بنفس الآليّات السّابقة، حيث سيحدث التّناقض الأساسي بين ما هو موجود وقارّ وما يجب أن يكون، لذلك يحدثُ التّغيير. ولكن التّركيز على مشاكل المجتمع والحياة يجب أن يترافق مع اهتمام حقيقي بطبيعة الكائن ومعنى الحياة نفسها والتّوسّع في الفهم عن طريق الفنّ وابتكار الأفكار الجديدة ونبذ الأوهام. وهنا يمكن أن تكون عبارة “ماركس التحذيريّة” شعاراً مهمّاً على المستوى النفسي، يقول: (إنّ المطالبة بالتّخلّي عن الأوهام حول الظرف، هي المطالبة بالتخلي عن الظرف الذي يحتاج إلى الأوهام ). هذا يعني أنّنا حين نحاول التّخلّص من الأوهام مع الإبقاء على ظروف إنتاجها، فإنّنا نساهم بتأبيدها من جديد. فكم هو مهمّ، معرفة المرء لذاته وإدراكه للاشعوره، إذ لا يكفي رفع شعار “دلفي” “اعرف نفسك” لأنّه حتى الصّفقات التّجاريّة الخسيسة تستخدم هذا الشّعار، بل المهمّ أن نرى حقيقة داخلنا ونعرفه وألّا نكتفي بالمشاهدة العابرة التي لا تترك أثراً يذكر.

معرفة المرء نفسه تتضمّن معرفته للاشعوره أيّ للبعد الثالث لحياته النّفسيّة، وما الذي لا نعرفه. والحقيقة هي أنّ معظمنا هو “نصف نائم” مع اعتقاده عكس ذلك. نحن لسنا يقظين إلا بمقدار ما تتطلّبه مساحة السّعي وراء الرزق الذي تجيده أغلب الكائنات الحيّة الأخرى. فلكي نكون أنفسنا لا مجرّد آلات إنجاب وتغذية فقط، لابد  لنا من المساهمة بخلق استبصار آخر يجعلنا ننفذ من السطح إلى جذور وجودنا لنصبح متيقّظين.

أليسَ عجيباً أنّ الناس لا يفهمون حياتهم إلّا قليلاً جدّا؟ وهم “أشقياء في غمرة الوفرة”؟ وأنّهم حين يملكون كل ما يمنع عنهم التّخبّط ويسير بهم نحو الأفضل. نراهم أشقياء ممتعضين وحزينين وحياتهم خاوية بلا معنى؟ ذلك يؤكّد الضرورة والأهميّة القصوى لمعرفة المرء ذاته ومعرفته لجسمه، فكائننا الحديث لا يعرف ولا ينتبه لجسده إلّا في حالات “الألم”. وإذا أراد الشخص أن يحرّر نفسه من الداخل فإنّه بحاجة لمعرفة ذلك من وضعيّة جسمه وإيماءاته. فأنا أستطيع قياس حالتي الذهنية الداخلية بملاحظة وضعيّة جسمي المتغيّرة طبقاً لذلك. أن أشعر أنّني بخير أقلّ، فإنّ وضعيّة جسمي ستكون هي وضعيّة التعب والتهدّل في المشي أو القعود والعكس.

نستطيع تمييز شخص من طريقة سيره أكثر من وجهه لأنّ السير هو الحركة الأقل قصديّةً، أو شعوريّة وهي الأصدق، وكذلك الإيماءات فأيّ شخص لديه بعض الفهم يستطيع تمييز المصطنع منها من الحقيقي. وكلّ تعبير جسدي، هو تعبير مباشر عن أرواحنا، لذلك علينا تنمية الاستشعار داخلنا لفهم معنى الإيماءة ووضعية الجسم ومسيره، وبذلك نستطيع أن نمضي إلى المشكلة الأصعب وهي معرفة المرء لمعنى الجسد الكلّي ووحدة إيقاع الشخص ضمن النسيج البشري العام. وهي مشكلة لم تسبر بعد كثيراً رغم أنّه في علم الأنماط الشخصية عند “كريشمر، وشيلدون” تمّ إظهار الصّلة بين البنية الجسديّة والملامح الهوسيّة الاكتئابية أو الفصامية بوضوح شديد.  ولكي نصل إلى معرفة حقيقيّة لذواتنا لابدّ من التّدريب على منهجي “التّركيز والتّأمل” اللذين يفتقر إليهما كائن العصر الحديث. يجب ألّا يكون في حياتنا لحظات ميّتة، وأن نحفّز طريقة الإدراك لكلّ لحظة من لحظات الجسد ووضعيّاته، ولأيّ شيء يجري فيه، ثم يأتي اكتشاف المرء لنرجسيته وعيوبها ليضيف درجة جديدة لسلّم ارتقائه، فالنّرجسي شخص لا وجود لواقع عنده إلا الذي يجري ذاتياً وأفكاره وأحاسيسه وما إلى ذلك هي وحدها الحقيقيّة. كائن مضطّرب للغاية يعيش على تغذية نرجسيته وحسب. قد يغفر كلّ شيء سوى “إيذاء نرجسيّته”. وثمّة “نرجسيّة جماعيّة” هي نرجسيّة الإنسان العادي، الفقير التي لا تطال الرجل الغني، لأنّه قادر على مؤازرة نرجسيتّه بماله وقوّته، أمّا الآخر حين يشارك في نرجسيّة جماعية فإنّه يستطيع أن يشعر بذاته وانتمائه إلى “أمّة ” عظيمة رائعة فيتفوّق على الأشخاص الآخرين وينغمس في هذه التجربة النرجسيّة. ولعلّ ذلك هو منبتُ جذر التعصّب القومي “النّازيّة والصّهيونيّة”، المسبّب الأساس لمعظم الحروب. إنّ فهم النرجسيّة التي هي مشكلة عصبيّة من مشكلات النّمو الإنساني، يعتبر أحد مفاتيح فهم تصرّفات الناس غير العقلية ولفهم الإنسان لنفسه. وتحليل المرء لنفسه كلّ يوم هو مسألة بغاية الأهمية، حيث أنّ هناك ضرورات يجب القيام بها، لا لأنّها مترعة بالمتعة وحسب، بل لأنّها أساسيّات لأمور أخرى إذا أردنا أن يكون لحياتنا وزناً ومعنى. وحين يريد المرء تحليل نفسه يجب أن تكون شوكة المقاومات الداخلية قد انكسرت، حيث يجب ألّا يركّز  فقط على طفولته بل على أساس وجوده الكلّي وأين موقعه من هذه الحياة وأهدافه وغاياته فيها التي هي لاشعورية غالباً، أو هل يفتقر لهذه الغايات الحقيقيّة؟.

وقد يكون التّحليل الذّاتي بسيطاً بأن نخصّص كلّ يوم نصف ساعة للسّير والتّمعّن بالنظر في سيرنا والتفكّر لماذا كنّا متعبين في الأمس، وإذا كنّا قد نمنا نوماً كافياً فلماذا التّعب إذن؟ وقد نكتشف أنّنا كنّا قلقين، ونسأل أنفسنا عن سبب القلق. وهكذا.. والتّحليل الذّاتي هو أن تأخذ وقتك وتكون مسترخياً وتبدأ الشعور مختبراً أحاسيسك تجاه أشخاص تظنّ أنك تحبهم لوهلة ثم تكتشف العكس. بتلك البدايات البسيطة التي لا تحتاج لمخطّطات كبيرة، كما يقول “إريك فروم” سنتعلّم بهدوء كيفيّة معرفة  ذواتنا بشكلٍ أوسع والتّعامل مع الطّوارئ العصابيّة والاكتئابيّة التي يقول أغلب الناس أنّهم يجهلون المقدّمات المنطقيّة التي أدّتْ إليها.

أوس أحمد أسعد