محمد الماغوط .. في مدن الغرباء
اتُّهِم بالعصبية وبتمتعه بمزاج خاص، وعندما اجتمع به د.إسماعيل مروة وجد أن كل ذلك صحيح، ولكن تمت قراءته بشكل سلبي من قبل الكثيرين وهو القادم من تلك المدينة التي قدمت الكثير من المبدعين المشاكسين، ويذكر مروة أنه التقى به لأول مرة من خلال “حزن في ضوء القمر” وفي مكان يحمل الاسم ذاته وجده على “أرجوحة” وخاطبه قائلاً: “تمرجح شوي بجوز تشوف أحلى” وحينما سأله مروة: “لماذا ينفرونا منك” قال : “لأنهم لا يجيدون التعامل مع الصدق”.
وبيّن د.مروة في بداية ندوة الأربعاء والتي أقيمت في مكتبة الأسد الوطنية وحملت عنوان “محمد الماغوط في مدن الغرباء” أن الماغوط أسس مجلة “شعر” عام 1957 مع يوسف الخال وأدونيس وكان رائد القصيدة النثرية، فكان الأب والخاتمة لها وهو أيضاً برأي مروة أهم كاتب للعمود الصحفي وأب من آباء الصحافة الأدبية حين أصدر ملحقاً ثقافياً في جريدة “الخليج” لا يزال كما وضعه بأبوابه وهي تفاخر به.
اثنان في واحد
ولأن الحديث عن محمد الماغوط لا يمكن أن يكتمل إلا بوجوده كان من الضروري أن يكون الفنان دريد لحام حاضراً بين الجمهور في هذه الندوة فاعتلى المنصة ليقول أن معرفته بالماغوط كانت في العام 1973 حين التقاه صدفة في نقابة الفنانين وقد تطابقت أفكارهما حول نكسة 1967 وكان الاتفاق أن يعبِّرا عن ذلك بمسرحية ولِدَت بعد لقاءات وحوارات كثيرة بينهما فكانت “ضيعة تشرين” ثم “غربة” و”كاسك يا وطن” و”شقائق النعمان” إلى أن حدث سوء تفاهم بينهما أدى إلى طلاقهما فنياً إلا أن صداقتهما استمرت فكانا اثنين بواحد في قناعتهما وطريقة عشقهما للوطن.
الفرح ليس مهنتي
وأشار د.عبد الله الشاهر أن الماغوط ومنذ مجموعته الأولى “حزن في ضوء القمر” أعلن عصيانه وتمرده وتشرده، ورحل حاملاً سر غربته وإبداعه، وقد جرب ضروباً من الغربة سواء داخل الوطن أو خارجه، لكن الوطن ظل محطة أساسية في شعره، فالوطن عنده هذا التراب الذي يسري في دمه، منوهاً إلى أن الماغوط صاغ كلماته من شجو الأيام ورسمها بحروف لوعها الحزن والأسى، فهو الشاعر الذي غيّب ذاته في الكل ودافع عن حقوق الآخرين، ومع هذا ظل يسكن غربته المزمنة في دهاليز الروح:
طفولتي بعيدة، وكهولتي بعيدة
وطني بعيد ومنفاي بعيد،
أيها السائح
هذا الضياع الروحي برأي الشاهر جعله يكتب “الفرح ليس مهنتي” فلا أثر للفرح في كتاباته لأنه ظل يحمل أسماله على كتفيه غارقاً في بحار الغربة والتشرذم الروحي، فظل ينتقل من رصيف غربة إلى رصيف غربة، فغربة الماغوط كانت راسخة كالجبال، قابعة بكل أشكالها على قلبه المنهك وروحه الممزقة كدفتر عتيق ذرت أوراقه ريح الشتاء وبعثرته على أرصفة المدينة، فلم يبق له سوى محبرة وريشة يكتب قصائده ويوزعها على المحتاجين وقد انشغل الماغوط بالغرباء الذين يعودون إلى بيوتهم محطمين يحملون أوجاعهم ويغنون لفرح قد يأتي وقد لا يأتي، مؤكداً الشاهر أن الماغوط امتلك استعداداً نفسياً لخوض تجربة التشرد، ولأن التشرد هو الطريق والرصيف والحافلة ذكرت هذه الأماكن في شعره: “لقد وضعت حقيبتي على ظهري كالطائر، اجتاز الخنادق الفاصلة بالدم والآلات الحاسبة”.
ولأن الماغوط كان يعيش غربتين، غربة نفسية وغربة الوطن، نراه كما أوضح الشاهر يشتاق إلى الأمكنة التي يحبها في دمشق ويتلهف لرؤيتها حيث الغربة هي التي تشعل نار الشوق في داخله:
“سورية أيتها الحبيبة والمفداة لو مزقوا أجسادنا بعدد نجومك ونشروا دماءهم على مطالع الكتب والتماثيل لن نخونك يا حبيبة”.
كانت الغربة برأي الشاهر المآل الحتمي للماغوط الذي كان في صدام مستمر مع وجوده وقد قدم رؤاه من خلال التصوير والترميز، حيث الرمز شغل نصف البناء الرؤيوي في شعره.
إشكالية الهوية
أما أ.حسام خلوف فتحدث عن “إشكالية الهوية عند الماغوط” رؤية حاول من خلالها أن يضيء على كتاباته من منظور خاص هو المنهج البنيوي النفسي الذي أرسى قواعده المفكر الفرنسي جاك لاكان من خلال تنظيراته اللغوية التي أحدثت انقلاباً جذرياً في مسارات الدراسات الأدبية واللغوية التي قالت بأولوية الدال-الاسم على المدلول-الذات وكيف تعامل معها الماغوط، حيث انطلق في كل كتاباته من هذه الفكرة، أي الصدام مع الاسم والكنية الموروثين عن الأب واللتين تلقيان على كاهلنا انتماءات رمزية لم نختَرها، حيث أن أسماءنا فرضت منا أن نتموضع في طبقة وقومية محددة، وكل هذا برأي مخلوف التقطه الماغوط فأعلن قطيعته مع كل الإيحاءات الرمزية الصادرة عن هويتنا اللغوية، وهنا يقول الماغوط “أنا لست مسؤولاً عن شيء في هذا العالم.. لم أجد نفسي إلا في ذلك الرحم وداخل هذه المنطقة وفي جيبي هذه الكرتونة التي اسمها هوية”.
وهو حين يصف الهوية بالكرتونة إنما يعكس برأي مخلوف سخطه على سطوة الاسم الشخصي، على كينونته المتفردة التي تغيب بفعل الدال-الاسم ولذلك فهو حين أراد أن يسمي ابنه بحث له عن اسم لا علاقة له بأي انتماءات رمزية مسبقة : “سأنجب طفلاً اسميه آدم لأن الأسماء في زماننا وبلداننا تهمة.. أريده آدم يهودياً مسيحياً مسلماً، لا يهم، أريده لا يعرف من الدين إلا الله وأن وطنه للجميع.. سأعلمه أن الإنسانية هي الأهم”.
من هنا أشار خلوف إلى أن إدراك الماغوط لسطوة الاسم على كينونته بدأ مبكراً، فتمرد على الهوية الشخصية وموقعه من اللغة، فها هو يخاطب أبيه : “وفي أعماقي أحمل لك ثورة طاغية يا أبي، هذه الثورة هي اسمي”.
وبهذه الكيفية رأى خلوف أن الماغوط الشاعر كتب بطريقة استثنائية، مستخدماً اللغة ضد اللغة، والكلمة ضد الكلمة، والشعر ضد الاسم، لتتجلى إشكالية الهوية والذات لديه في كل ما كتب من شعر ومسرح ورواية وسينما، وها هو في فيلمه “الحدود” ومن خلال شخصية عبد الودود الذي فقد جواز سفره بين بلدين طرح فكرة أن الذات ليست شيئاً ما لم تنضوي في اللغة، فعبد الودود حينما فقد جواز سفره فقد اسمه المعرفي وموقعه في بنية النظام الرمزي والمعرفي ليقول إن الكينونة أهم من الاسم الموروث، ولذلك بيّن خلوف أن الماغوط يستميت لفكِّ ارتباطه مع الدال-الاسم فيصرح أنه يفضِّل الحياة العسكرية على ما فيها من قسوة لأنها لا تفرق بين الألوان والطبقات، فالكل متساوون في اللوازم والحقوق والحاجيات، إلا أن خلوف عاد فأشار إلى أن الماغوط وبسبب الألم الذي تجرعه خارج اللغة عاد واضطر في ديوانه الأخير للعودة للنسق اللغوي الأبوي :
أنت الأب الحكيم وأنا الابن الضال
أناشدك يا أبي دع جمع الحطب
تعال لملم حطامي من الشوارع قبل أن تضمرني الريح
أعطني هويتي ودفتر عناويني وجواز سفري
سأضعها حول جبيني وأجلس متربعاً وسط المدينة كزعيم لإحدى القبائل المتوحشة.
وأكد المخرج علاء الدين كوكش أن الماغوط وإن رحل إلا أنه ترك إرثاً كبيراً من الشعر والأدب والفن، ولذلك فهو حاضر وموجود دائماً، وقد عاش في غربة موحشة، مبتعداً في حياته عن كل شيء، راغباً دوماً بالحرية والانطلاق، ذاكراً كوكش أن الماغوط وقبل رحيله بفترة طلب رؤيته، وبعد عدة لقاءات شعر أن الماغوط كان ينوي الانتحار بطريقته، وحين التقاه أخبره أن لديه أفكاراً سيقدمها لترى النور عبر عمل تلفزيوني شبيه بما كان قدمه سابقاً، عمل حمل عنوان “حكايا الليل” مع رغبته بتوسيع دائرة هذه الحكايات لتصبح “حكايا الليل والنهار” وكان ما أراد بعد أن قدم مجموعة أفكار تمت صياغتها من قبل الكاتبة كوليت بهنا والكاتب عماد ياسين، أرفقها كوكش في بداية كل حلقة بتسجيل صوتي للماغوط، وأسِفَ كوكش لأن الماغوط رحل قبل أن يرى العملَ على الشاشة الصغيرة، موضحاً أن صداقة قديمة جمعتهما منذ بدايات التلفزيون السوري حين كانا يعملان سوية فيه.
أمينة عباس