ثقافة

أبو تمّام وفان غوخ

مكان الإقامة اليومي للفنان – التشكيلي بشكل خاص- ليس فقط مجرد جدران ونافذة وسرير وما يوجد عادة حتى في أبسط المساكن الآدمية، بل هو عالمه الذي يغلق على نفسه جهاته كلها، بينما، جاعلا روحه تسبح هائمة في فضاءات واسعة لا جدران تحدها، وتسعى نحو مدارك جمالية أكثر بعدا وعمقا في الوعي الإنساني، ولطالما تحدث العديد من الفنانين عما يعنيه لهم المكان الشخصي، سواء بالنسبة لهم أو بالنسبة لنتاجهم الفني أيا يكن، فالشاعر “أرثر رامبو”-1854-1891- وجده في قبره مثلا، ولكن عموما جاء الجواب في غالب الأوقات، إنه عالمنا الخاص جدا، حيث نبتكر العجائب.

إلا أن أحدهم قرر الإجابة عن سؤال “المكان” دون حتى أن يوجه له ربما، لأنه يدركه بكيانه كله المادي والروحي، والإجابة كانت لوحة فنية رسمها عن مكانه الشخصي، محملا تلك اللوحة العديد من الرموز اللونية والشكلية، التي لا تفصح عن نفسها إلا بعد حين، وهذا ما فعله “فان غوخ”- 1853-1890-الذي أقام لأكثر من سنتين في مدينة “آرل” جنوب فرنسا، رسم خلالها عشرات اللوحات، منها هذه اللوحة “غرفة النوم في آرل”، التي رسمها ثلاث مرات تأكيداً منه على أهمية الغرفة التي أقام فيها في تلك المدينة.

الناظر إلى اللوحة سيشاهد للغرفة بابين، باب للدخول وآخر للخروج. الباب في الناحية اليمنى من اللوحة يقود إلى بيت الدرج، والباب الآخر يقود إلى غرفة أعدها “غوخ” لينام فيها صديقه الفنان “غوغان” حين يزوره. لكن بابي الغرفة هما  تعبير عن الحياة في دخولها وخروجها، بالولادة والموت، كما أنه أي المشاهد، سوف يلاحظ أن شكل أرضية الغرفة ليس مستطيلاً، بل شبه منحرف متوازي الضلعين، وهذا يضفي إليها أبعاداً أخرى على أبعادها. كما يلاحظ أنه لم يستخدم ظلالاً قط، وكان أخبر أخاه “ثيو” أنه لم يرغب في استخدام الظلال في اللوحة كي يُظهر قوة وبساطة الألوان، وأن الألوان تمتص وجود الظلال الثقيلة غير المرغوب فيها. ونرى تأكيده على الأرضية الخشبية البنية للغرفة، وكأنه أراد إظهار أن للغرفة حياةً وروحاً كالأشجار.

أما السرير الخشبي الكبير، فيبدو وكأنه ناووس يسجي فيه فان “غوخ” جسده كل ليلة ليبعث كل صباح. وإلى جانب رأس السرير، كرسي خشبي وكأن هناك من يروي “لفان غوخ” الحكايات ليلا ليساعده على النوم، فيستعيد بذلك طفولته، وعلى الطاولة الصغيرة في زاوية الغرفة هنالك قنديل ودورق ماء وأكواب زجاجية، وكأن الحياة لا تكتمل دون نور وماء. وفوق الطاولة على الجدار، يوجد مرآة يقابل بها “غوخ” نفسه كل صباح ليتأكد أنّه بُعث حقّاً. ونرى إلى جانبها النافذة الّتي تطل على حدائق مدينة “آرل” الخضراء. ربما أقفلها “فان” لأنه اكتفى بسحر غرفته، ولا يحتاج إلى سحر خارجي آخر.

على الجدار في الناحية اليمنى من اللوحة لوحتان رسم في إحداهما صديقه الفنان البلجيكي “يوجين بوخ” ورسم في الأخرى صديقه الآخر الفنان الفرنسي “بول ميليه”، وكأنه يريد أن يحاط بأصدقائه دوماً حتى في خلوته.

يُمكن القول إن “فان غوخ” اكتشف تقاليد فن “الفِنغ شُوِي” الصيني في التصميم الداخلي للغرف، الذي يناغم الطاقة في المكان، ويجعل ساكنه أكثر راحة نفسيا ومتصالحا مع بيئته المحيطة، حيث يكون أقل توترا. ربما ذات يوم مضى، عاد “فان جوخ” لزيارة غرفته هذه بعد أن تركها، ولا ريب أنه كلما تطلع إلى إحدى هذه اللوحات الثلاث أصابه شجن على طريقة “أبي تمّام”: فكم من منزلٍ في الأرض يألفه الفتى.

تمّام علي بركات