القصائد الملحنة للشاعر بدوي الجبل في أمسية غنائية
“هدهد همومك عندي/على حيائي وصدّي/حورالنعيم تمنّت/نعمى هواي ووجدي” قصيدة شقراء لبدوي الجبل الحوارية الغنائية بين عبير البطل وريان جريرة كانت من أجمل القصائد المغناة في أمسية غنائية على مسرح الأوبرا ارتقت إلى عظمة أشعار بدوي الجبل مع فرقة قصيد بقيادة المايسترو كمال سكيكر الذي تمكن من تلحين القصائد الصعبة وتوزيعها أوركسترالياً بتآلف هارموني يتناغم مع بلاغة الصور وقوة التراكيب وبعد المعاني ضمن البناء الفني للقصيدة، فأنصت الحضور بشغف إلى غزليات الجبل وتفننه بوصف المحبوب ولقاء العاشقين، لكن الأجمل كانت الرموز الصوفية التي وظّفها البدوي في قصائده ليلحن سكيكر القصيدة الصوفية الشهيرة”الحبّ والله”، بلغة موسيقية عالية اعتمد فيها على اللحن الوتري بشكل أساسي كونه يفيض بترجمة المشاعر والأحاسيس بالتداخل مع الحزن الشفيف لنغمات التشيللو مركزاً على فواصل الآلات الشرقية، واستخدم أجزاء من الآلات والجمل الموسيقية الصغيرة للصولو، لكن الأمر اللافت هو التبدل اللحني بإظهار الصوت الخافت للنسيج الموسيقي لتتوافق البنية اللحنية مع المعاني الشعرية ليتصل اللحن البطيء مع الفاصل السريع. وليصل سكيكر إلى ذروة التعبيرية بتفرد بعض أبيات الشعر بالغناء دون موسيقا.
تألفت الأوركسترا من الوتريات والإيقاعيات والعود والقانون والناي وبدأت بافتتاحية للموسيقا الآلية من تأليف سكيكر بعنوان”موسيقا لها الحبّ”تمهيداً للقصائد المغناة بدأت عبير البطل بغناء قصيدة “خالقة” ألحان رحباني وتوزيع سكيكر، ثم القصيدة المميزة نغمات عودي”:
نغمات عودي لاتملّ لأنها/شعر يفيض عواطفاً وشعورا”
ارتبطت هذه القصيدة بشكل أساسي بالعود لحنها المايسترو عدنان فتح الله، ليأخذ العود اللحن الأساسي في البداية ثم مع الوتريات، وزاد من جمالية القصيدة صوت سومر نجار، في قصيدة موطن النجوم بدا اللحن التقليدي القديم لسيد مكاوي وتوزيع سكيكر بصوت أليسار السعيد، والتي انتقل فيها البدوي من المطلع الغزلي على غرار القدماء إلى التغني بجغرافية سورية وتميزت بفواصل الناي، ليتفاعل جمهور الأوبرا بالإنصات الشديد إلى صوت غزوان الزعيم مع مفردات قصيدة “ياقمر”بألحان وتوزيع سكيكر، واتسمت بالنسيج الموسيقي الخافت في مواضع “من خمر الهوى ترشقتُ رحيقاً” ليأتي التنغيم بالتدرج الصوتي مع الناي والعود والتكثيف الوتري الخافت في”أنا مظلوم” ليتفرد الزعيم بغناء أبيات دون موسيقا لتنتهي ب”فاشهد عليها ياقمر” الحوارية الغنائية لقصيدة شقراء بين عبير البطل وريان جريرة إذ غنت البطل بإحساس الأنثى وباختلاف المستوى الصوتي في مواضع، ليتابع جريرة مع تقنية الرش للعود في” شقراء يا لون حسن” لتعود البطل بتنغيماتها إلى مطلع القصيدة”هدهد همومك عندي” وينتهي الحلم الجميل الذي استمر قرابة ساعة ونصف بالقصيدة الصوفية “الحبّ والله” ألحان سكيكر بصوت جريرة التي تميزت بمقدمة موسيقية طويلة مع نغمات التشيللو وحضور الناي والكمان لتنتهي بـ “وقد تفرد من يهواه”.
قراءة أشعار البدوي
وتحدث معاون وزير الثقافة د. علي المبيض عن روح بدوي الجبل التي كانت حاضرة في دار الأوبرا في أمسية تكاملت فيها عناصر النجاح من حيث معاني المفردات وتماسك الألحان والأصوات الجميلة، وأن القصائد المغناة للبدوي في هذه الأمسية أحيّت أشعاره وأعادت ذكراها إلى الأذهان، لاسيما أنه تغنى بمواطن الجمال في محافظات سورية قاطبة، وهي دعوة إلى إعادة قراءة أشعاره وفهم مضمون قصائده والتوقف عند جمالياتها الفنية، ليخلص إلى أن بدوي الجبل أحد العظماء الذين مروا بتاريخ سورية خلال القرن العشرين.
ويشيد المايسترو عدنان فتح الله بهذه المشروعات الموسيقية التي ترسخ هوية اللحن والأغنية الموسيقية لاسيما التلحين لقصائد الشاعر فيقول: حينما قرأت قصيدة نغمات عودي تأثرتُ بمفردات القصيدة التي ارتبطت معانيها بالعود، وكوني عازف عود لحنت القصيدة بإحساسي بالمفردات وبالعود مع الفرقة، وأتمنى أن أكون قدمت عملاً يليق بعظمة القصيدة، فبدأت بمقام كورد ثم حجاز كار ونقلة إلى العجم ثم يعاد اللحن مع وجود صولو للعود بين المقاطع.
تصوير الشعر موسيقياً
ويرى المايسترو كمال سكيكر أن الاستماع إلى الشعر المقفى يختلف عن الاستماع لبقية أنواع الشعر كالتفعيلة أو النثر فللقافية رنينها الذي يتصف بوقع خاص على الأذن، فالاستماع إلى قصائد بهذا المستوى الشعري والعمق اللغوي الكبيرين يختلف عن الاستماع إلى الأغاني الخفيفة أو التي تأتي ضمن قوالب صغيرة، وعملت على التأليف اللحني الذي يتناسب مع بلاغة معاني قصائد شاعرنا وكثرة صورها وعمقها البعيد، فعلى اللحن أن يصوّر الشعر موسيقياً، وكتبت هذه الأعمال بعد تلحينها للأوركسترا العربية المؤلفة من الوتريات والإيقاعيات والآلات الشرقية.
وعن خصوصية الغناء دون موسيقا أوضح غزوان الزعيم الذي غنى قصيدة”ياقمر” بأنها مسؤولية صعبة تناط بالمغني بأن يقدم المفردة دون موسيقا، لكن برأيي يكون قادراً على التعبير أكثر، وأنا أحب هذا النوع من الغناء الشعري الذي يطلق عليه”أكليبتو” أي الغناء غير الملتزم بالإيقاع واللحن الموسيقي، وهذه الأمسية قدمت تجربة جديدة لتلحين القصائد ذات المستوى الرفيع تغني التلحين المعاصر للشعر الكلاسيكي القديم، وهذا التأليف الموسيقي لايوجد إلا في البلاد التي توجد فيها نهضات، فما أروع أن تتم هذه الحركة في سورية وفي زمن الحرب.
ملده شويكاني