شركات الدوبلاج.. تهديد حقيقي للدراما المحلية
ما تقوم به شركات “الدوبلاج” التي انتشرت مؤخرا كالنار في الهشيم، يشبه التالي: أن تستورد مجموعة من السيارات، وتعيد طلاءها، أو تبدل عجلاتها ثم تبيعها من جديد، هم يستجلبون مسلسلاً أجنبياً، مع خيار استبدال مسار الصوت أثناء عملية مكساج الصوت ولديهم أيضا الحوارات مكتوبة جانبا للبدء فورا بترجمتها إلى اللهجة السورية، ثم يؤديها ممثل أمام ميكرفون، يكون من أحد جهوده أثناءها أن تتطابق الجملة التي يقولها في طول زمنها، مع زمن تحريك شفاه الشخصية، ثم مكساج خفيف من قص ولصق في المقاطع الصوتية، وبعدها يصبح المسلسل صالحا للعرض على جمهور عربي لا يقل عن 300 مليون نسمة، فاللهجة السورية أصبحت رائجة بين جميع الناطقين بالعربية، بل ومحببة إلى قلوبهم، بسبب لطفها، وتناغم تركيب الجملة فيها، فاللغة المحكية التي نحكيها اليوم، هي البنت الشرعية للآرامية القديمة، يكفي أن المحكية لغة ساكنة لا حركات فيها.
هذه اللهجة الحضارية، التي ورثناها منذ غابر الأزمان، لا تقل ولا تختلف عن أي أوابد أثرية، فعندما نقول أننا أبناء حضارة، فهذا لا يعني شيئا مالم يكن في فائدتنا ومصلحتنا المعرفية حتى والمادية، فعندما نواجه مشاكل في مهنة ما، فهذا ببساطة تحد حضاري واقتصادي أيضا، ويخطئ من يعتقد أن هناك فرقاً بين الاقتصادي والحضاري.
إن شركات الدوبلاج تتسبب بخسارة تفوق الوصف لشركات الدراما المحلية، فهي تنافسها وتقطع رزقها بطريقة غير نزيهة، والعلاقة بينهما، تشبه العلاقة بين نبات طفيلي ينمو بجانب نبات آخر، فيتسلق عليه ويغرس فيه أشواكه ليمتص سبب حياته وهو الماء، فيقتله ويبقى هو على قيد الحياة، تماما كما تفعل شركات الدوبلاج، التي نشأت في ظل نجاح شركات الإنتاج الدرامي المحلية، في بيع ما تصنعه، وتصديره إلى الأسواق العربية، من خلال السطو على أهم ما يميز النتاج الدرامي السوري، وهو اللهجة السورية المحكية، فتقوم شركات الدوبلاج باقتطاع اللهجة بمفردها، وتلصقها على أعمال غريبة منافسة، ثم تبيعها بأبخس الأثمان.
مشكلة ذلك ليست فقط في استعمال أهم ما يميز المسلسلات السورية، في الترويج لمسلسلات غريبة ومنافسة، بل أيضا مشكلته هي أذية الصناعة الدرامية المحلية، وحرمانها من أهم عناصر قوتها، بأن تأخذ فقط الصوت السوري وتقوم ببيعه بمفرده، تاركة للكساد البضائع المحلية “الفنية والاقتصادية” التالية: السيناريو السوري ومن يكتبونه، “اللوكيشنات” السورية ومن يؤجرونها، شركات تأجير معدات التصوير، من كاميرات وإضاءة وجزر مونتاج، مع من يعملون عليها، الممثلون السوريون كطاقة بشرية، وكل العاملين في صناعة الدراما، ليس ما سبق هو فقط ما يتعرض للكساد، بل أيضا: العادات والتقاليد والقيم السورية، كقيم حضارية وإنسانية، مكانة سورية ومكانة أبنائها في العالم العربي كسادة، ودليل سيادتهم، أن القصص تحكى بلهجتهم(أهم سبب لهيمنة الولايات المتحدة على العالم، هو الأفلام الهوليودية) ولكن هل انتهت قائمة الخسائر التي تسببت بها هذه الشركات وما تفعله؟ انظروا إلى هذه الخسارة التي لا تخطر على بال: الأكلات والحلويات والغذائيات السورية التي تظهر بالمسلسلات بالصورة وبالتسمية، يمكن أن تصبح مطلوبة في كل العالم العربي بسبب الدراما المحلية، ودعونا لا ننسى السياحة، التي تروج لها أعمالنا الدرامية من خلال عرض المكان السوري الجميل، فتقوم شركات الدوبلاج، باستعمال لهجتنا للترويج للسياحة في بلدان أخرى، كل ما سبق يُضحى به بتصرفات غير مسؤولة، تنزع عن الدراما المحلية، أهم سبب لترويجها وهو اللهجة، فيتم إعطاء واحدة من أهم عناصر قوتنا وحضارتنا، للبضاعة الغريبة المنافسة.
الغريب في الأمر أن شركات الإنتاج الدرامي المحلية، تتفرج بهدوء، على عمليات قطع رزقها، وتخريب بيوتها، فلا تفعل ما يجب أن يفعله أي صناعي لحماية صناعته، أليست الدراما صناعة وتكاليف وأرباح وتسويق؟ فهم لا يواجهون خطرا عاديا، مثل شركات صناعة الألبسة، التي قد تواجه خطر استيراد ملابس رخيصة الثمن ومنافسة بالجودة، فما تواجهه شركات الإنتاج السورية، هو سرقة وليس منافسة! فمن الطبيعي أن تأتي مسلسلات وأفلام إلى الجمهور المحلي، وتترجم بكتابة كلمات على الشاشة، أما ما يحدث من سرقة فيتمثل في تفكيك لآلية وسبب نجاح المسلسل السوري وسلبه، وتركه معطوبا، الحديث طبعا عن اللهجة السورية المحلية، بما تتضمن من، قدرة على ترويج الأعمال الدرامية المنافسة، فتملأ ساعات البث في المحطات العربية العديدة، وتستغني بذلك عن المسلسل السوري، بلسان حال يقول: ها أنا اشتري بسعر أقل، مسلسلا تركيا أو هنديا، وأعرضه بصوت سوري، أي: استحضرت عنصرا حضاريا سوريا، وقمت بنسبته إلى مسلسل أجنبي واستغنيت عن السوريين، الذين كانوا سيظهرون في الشاشة.
أليس لشركات الإنتاج الدرامي المحلي رابطة؟ أو تجمع من أي نوع؟ ليطالب بوضع حدّ لهذا النزف في واحدة من أهم صناعات البلاد، كالصناعة الدرامية، وهو نزف مهني فني ثقافي اقتصادي وحضاري؟ وبعد ذلك نعقد الجلسات والمؤتمرات للبحث عن سبل كسر الحصار عن الدراما السورية، يبدو أننا نحاصر أنفسنا، أكثر مما يحاصرنا الغريب، فعلا كما يقول الشاعر صالح بن عبد القدوس: ( لا يبلغ الأعداء من جاهل/ ما يبلغ الجاهل من نفسهِ).
تمّام علي بركات