ثقافة

لا تُقلق عظامهم.. دعهم يستريحون

بنفس اليوم الذي توفي فيه أديب فرنسا العظيم “فيكتور هوجو” اجتمع مجلس النواب الفرنسي وقرر إقامة جنازة عظيمة للراحل الكبير، خلافاً لما جاء في وصيته من أن يدفن في مقبرة للفقراء سيما وأنه قبل ثلاث سنوات من وفاته قد اشترى قبراً وأوصى أن تكون جنازته بسيطة وتقتصر على بعض المشيعين من الفقراء وامرأة واحدة ربما المقصود صديقته “جولييت دورييه”، لكن كما يعتقد أن أحد أحفاده قد لعب بالوصية لتصبح زوجته هي المقصودة بدلاً من صديقته، وربما كان حماس أغلب نواب المجلس ينطلق من أمرين أولهما التغطية على فشل سياسات الحكومة في المستعمرات حينها، والسبب الثاني هو المكايدة مع ألمانيا التي تفتخر بشاعرها العظيم غوته، ومع انكلترا التي تفتخر بأديبها العظيم أيضاً وليم شكسبير، وبناءً على ذلك فقد قرر البرلمان أن تُقام للشاعر الروائي الأعظم جنازة قومية بكل معنى الكلمة، وأن تشكل لجنة تكون مسؤولة عن تجهيز إجراءات الجنازة وتحديد مسيرها وأسلوب عرض الجثمان على الجماهير لإلقاء نظرة الوداع، وتكليف أحد الفنانين لعمل تمثال بصمة من الجص ليساعد في إقامة تماثيل مختلفة للأديب الكبير في أكثر ميادين باريس وعواصم الأقاليم، وبناءً عليه فقد باشر الفنان “جارنيه” المكلف بصنع التمثال الجصي عمله في غرفة الميت التي تواجد فيها حفيدا الراحل وصديقته وقد أصر على تنفيذ العمل بالرغم من فشله لثلاث مرات متوالية بسبب لحية الأديب حيث كان يلتصق بها الجص الساخن والرائحة الكريهة المنبعثة من الجثة بسبب الحر الشديد في تلك الآونة، ونظراً لانتشار الخبر فقد تم الاتفاق على أن يكون تشييع الجنازة في الأول من حزيران أي بعد ستة أيام من الوفاة لأنها جنازة شعبية وقومية، وهناك مئات بل آلاف البرقيات من كل أنحاء العالم: عظماء وملوك ووزراء وأدباء يريدون أن يحظوا بشرف السير وراء جنازة العظيم هوغو، وتبعاً لذلك فقد رأت اللجنة بحصافتها أن توائم بين وصية العظيم الراحل ومقررات البرلمان فبرنامج الجنازة سيبدأ في نعش بسيط ينطلق من بيته حتى قوس النصر حيث سيكون النعش الرائع الذي صنعه الفنان جارنيه في انتظاره ليوضع فيه بحيث يتسنى للناس جميعاً أن يشاهدوه، غير أنه قد سرت شائعة مفادها أن صاحبة الشاعر قد أخرجت الجثة بسرية تامة ودفنتها حسب رغبته في المقبرة التي اشتراها، وسرى هرج ومرج بين الجماهير التي تطالب بمعرفة الحقيقة ولكن اللجنة استطاعت أن تقنع الناس بأنها مجرد إشاعات مغرضة روجها بعض الكارهين للراحل العظيم، وأنها لن تخضع لهذه الألاعيب. وفي الأول من حزيران عام 1885 بدأت الجنازة من بيت الشاعر وخرجت باريس كلها وراء النعش البسيط في رحلته نحو قوس النصر، حيث يوضع في صندوق النعش المصنع لأجله، وسيبقى يومان آخران كي يراه ملوك وأمراء وسفراء الدول ثم ينقل النعش العظيم إلى البانثيون حيث مستقره الأخير، وما إن اخترقت الجنازة شارع الشانزلزيه في طريقها إلى البانثيون حتى دوت الصيحات والشائعات الرهيبة: أين جثة فيكتور هوغو؟ افتحوا الصندوق الفخم فلن تجدوا سوى قطة ميتة”.غطت الموسيقى النحاسية على الهرج وفي عجلة أنزل الصندوق كما هو في مكانه في البانثيون، وبعد أسبوع من الدفن وفي سرية كاملة تشكلت لجنة لفتح الصندوق والتأكد من وجود الجثة.
لم ينشر شيء عن تقرير اللجنة.
الجدير ذكره إن عملية فتح القبور قد تبدو تطوراً خيالياً للأحداث إلا أن هذا الأمر صار شائعاً نوعاً ما مؤخراً بسبب التقدم والتطور الحاصل في تقنية الحمض النووي، حيث أنه على مر السنوات القليلة الماضية تم نبش قبور كل من: الشاعر والأديب التشيلي بابلو نيرودا، والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات وآخرون كثر تم استخراج جثثهم لأسباب مختلفة، فمثلاً سلفادور دالي لإثبات أبوته لقارئة أوراق التاروت –أوراق لكشف الحظ- “بيلار أبيل” التي ادعت أن الفنان كان على علاقة غرامية بوالدتها عندما كانت تعمل لديه خادمة في منزله، ليوناردو دافنشي أيضاً كان له نصيب، وذلك من أجل إجراء عملية إعادة بناء تفاصيل وجهه والبحث عن خيوط قد توضح أسباب موته التي لم تعرف وبقيت مجهولة، أما بالنسبة لنابليون بونابرت فإن بعض العلماء والباحثين يميلون إلى الاعتقاد بأن قبره في باريس مزيف، ولا يحتوي على جثته الحقيقة إنما يحتوي على جثة خادمه، ويعود أصل هذا الاعتقاد إلى أن البريطانيين قاموا بإخفاء الجثة الحقيقة للإمبراطور تهرباً من تهمة الإهمال أو التسمم وهما السببان اللذان يعتقد بأنهما وراء موته، وقاموا بدل ذلك بإرسال جثة خادم، غير أن الحكومة الفرنسية ووزارة الدفاع فيها لم تبد أي اهتمام تجاه هذه النظرية ورفضت على إثر ذلك طلباً في عام 2002 بإخراج الجثة وفحصها،  ومن الطريف هنا أن نعلم أن شكسبير كان يخشى أن تصل الأمور إلى نبش قبره بعد وفاته فقد كان حريصاً على كتابة تعويذة توضع كشاهدة على قبره تلعن كل من يحاول ذلك، تقول هذه التعويذة:”أيها الصديق الطيب بربك امتنع عن نبش الغبار المغلق هنا، تبارك هو ذلك الذي يعفي هذه الحجارة، وملعون من يحرك عظامي من محلها”. ترى هل يعد نبش القبور عملاً أخلاقياً مهما كانت الدوافع والمبررات؟ ولا سيما أن النتائج المرجوة تبقى حكراً على من قام بها، أو تتحول إلى ملفات تندثر في قبور أعمق من الغموض والتوهان.
علا أحمد