ثقافة

لبنان يوّدع شاعر المقاومة عصام العبدالله الذي كان “أكثر حزنا من الناي”!

يودع لبنان اليوم الأربعاء قامة أدبية عملاقة هو الشاعر المخضرم عصام العبدالله، الذي توفي أمس عن 73 عاما بعد معاناة مع مرض عضال، لم يتمكن من قهره بشعره المكتوب بلهجة لبنانية محكية.

وقال اتحاد الكتاب اللبنانيين في بيان صدر عن أمينه العام وجيه فانوس: “اتحاد الكتاب اللبنانيين يفقد اليوم ركنا أساسيا من أركان جمال التعبير وبلاغة التوصيل وعمق الرؤية وعذوبة الكلام.. بغيابك يا عصام، الكلمة أرملة ثكلى، ونحن أيتام نبكي جمال شعرك وروعة حضورك”.

وكان الشاعر الراحل ابن بلدة الخيام في جنوب لبنان اعتاد في سنوات الحرب والسلم الجلوس مع مجموعة شعراء في مقهى بحري في رأس بيروت. وفور إعلان وفاته تجمع أصدقاؤه الشعراء، يوم الثلاثاء، في المقهى نفسه وتركوا له كرسيا فارغا وضعوا فوقه بعض دواوينه.

وقال الكاتب والصحافي بيار أبي صعب في “الأخبار” ناعيا الشاعر الراحل: “يقفل مقهى، فيهاجرون إلى آخر… حتى انطفأت المصابيح، وأقفلت المقاهي والصحف والمسارح، فلم يعد لهم إلا وطن من الذكريات. هؤلاء الفرسان، من شعراء وكتاب ومبدعين ومثقفين، أسسوا وجودهم على مقاسات المقهى، وفصّلوا على أساسه حياتهم وإنتاجهم ونقاشاتهم وقصص الصداقة والحب، والسياسة. كتبوا تاريخ المدينة. اليوم صاروا أيتام بيروت، آخر الشهود على عزّها الضائع، آخر الباحثين عن زمنها المفقود. عصام العبدالله كان أحد هؤلاء الفرسان المطاردين”.

وكتب الشاعر محمد ناصر الدين في وداع عصام العبدالله (1941 -2017): “انتمى إلى تلك الكوكبة من الشعراء التي كان عليها أن تترك شموس آبائها في القرى الجنوبية البعيدة في الستينيات والسبعينيات، لتدخل بيروت كتلك الأنهار التي تصب في البحر”.

ونعاه صديقه وزميله اسكندر حبش قائلا: “بين اسمين، امتدت حياتنا مع عصام العبدالله. ليس هو من يغادرنا اليوم، بل ربما نحن الذين نرحل، كي نقرأ القصيدة جيدا”.

أما الشاعر عبّاس بيضون فرثى نفسه برثائه، وقال في وداعه: “غياب عصام جعلنا نكتشف أننا نشكلّ شيئا، لنسمه لقاء. سنجتمع على وداع عصام، وكنّا من أسبوع التقينا على وداع الشاعر الزجلي خليل شحرور الذي لم يكن فقط من أهل اللقاء، بل كان إلى جانب ذلك مثلا للدماثة والشهامة. إلى أين ستنتهي بنا الوداعات، أم أنّنا كلّ مرّة نودّع أنفسنا؟”.

وكتب الشاعر ومقدم البرامج اللبناني زاهي وهبي الذي كان يلازمه في جلساته اليومية في المقهى: “الصديق حتى آخر رمق، الضاحك حتى انهمار الدمع، المتثاقل على أوجاعه في أيامه الأخيرة حاملا طرائفه إلى المقهى كي لا يختل ميزان الإمتاع والمؤانسة، أو يكفهرّ وجه المدينة، وقبل ذلك وكل ذلك الشاعر سلوكا وممارسة ونمط حياة، ثم الشاعر كلمة وقصيدة وأغنية وقهقهة مجلجلة صاعدة من مقاهي الحمرا إلى فضاء العاصمة”.

بدأ الشاعر حياته بكتابة الشعر بالفصحى قبل أن يهجر القصيدة لسنوات طويلة ويعود ويبدأ بالكتابة بالطريقة المحكية. ولطالما نحت العبدالله في بحور عامية واستخرج منها عبارات شعرية حاول تقريبها إلى المتلقي وتسجيلها بصوته في وسائط مسموعة.

وفي أحد أحاديثه التلفزيونية النادرة قال: “كتابتي باللغة المحكية أتت من شعوري بأن أحدا ما يريد سحب لبنان من تحت قدمي، كانت انتقاما من موقفي العروبي والأممي الذي كان يعني تجاهل الانتماء الوطني”.

ولعصام العبدالله ديوانان من الشعر الشعبي (قهوة مرة) و(سطر النمل)، وهما مسجلان على أشرطة كاسيت بمرافقة موسيقى على البيانو قام بتأليفها وعزفها الفنان اللبناني زياد الرحباني.

وخلال الحرب الأهلية، شاعت كلمات كتبها في وصف أم شهيد من بلدته بعنوان “أجمل الأمهات”، وصارت أغنية على كل شفة ولسان، ويقول في مطلعها: أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها.. فعاد.. عاد مستشهدا.

وكان الفنان اللبناني مارسيل خليفة قد غنى من كلمات الراحل أغنية (ما بعرفن) عن مقاتلين يساريين لبنانيين كانوا يحاربون القوات الإسرائيلية، قبل انسحابها من جنوب لبنان عام 2000.

ويقول مطلع الأغنية: “ما بعرفن ما شايفن، لفوا وجوهن بالقهر، خبوا سلاحن في الوعر، خبوا أسامين، ما في حدا بيشوفهم، إلا إذا ماتوا، وتعلقوا مثل التحف مثل القمر، عم ينخطف، ما تعدهن صاروا عدد، مثل الخطر، مارق عسهل الجمر، وبيعد دعساتو”.

وكتب خليفة على وسائل التواصل الاجتماعي: “ما بعرفن. لم أسأل أحدا من هو في غمرة الشعراء. قرأت القصيدة في الجريدة ولحنتها وغنيتها وعندما التقينا رأيته قويّا كثَور، يحلّق عاليا كالنسر. ولم يكن يشبه أحدا. كان يقتني الخسارة في الدواوين يخرجها.. يموسقها.. يطبعها.. ينشرها.. يوزعها ويقرأ علينا ما تيسر إذا بقي وقت من أول وآخر الكلام في ترؤسه للّقاءات صفحة صفحة. رغم ضحكاته المجلجلة وروحه الحلوة كان أكثر حزنا من الناي”.

وأضاف خليفة: “تمدّد على العشب. لن يوجعك شيء بعد الآن. جسمك فرح عار. عصام العبدالله شكرا لك”.