“رجل وثلاثة أيام”.. ردود فعل متباينة إزاء الحرب
لم يكن القارب الخشبي القديم الذي يمخر عباب المياه الراكدة محملاً برائحة الموت فقط وإنما بالحياة أيضاً، على النقيض من المستنقع الذي غاصت به أقدام محمود، ليبني جود سعيد فيلمه الجديد”رجل وثلاثة أيام” -الذي قدم عرضه الخاص أول أمس في سينما سيتي- على التضاد بين الأسود والأبيض، بين الحياة والموت، لكن ليس الموت الموجود في محيطنا فقط وإنما الموت لأشياء كثيرة في داخل الإنسان، ليتناول سعيد في رسالته فلسفة الموت، وكيف يستطيع الميت أن يبعث الحياة من جديد في أعماق من يعيش وهو ميت.
تطرق سعيد في فيلمه الجديد إلى جانب خفي من الحرب السورية لامس كثيرين وجعلهم يعيشون حالة لامتناهية من اللامبالاة بالموت بالجوع بالدمار، ليغرقوا بممارسة سلوكيات دون ضوابط أخلاقية، ليطرح المخرج سؤالاً على لسان مجدي بطل الفيلم الممثل محمد الأحمد وهو يخاطب ابن خاله الشهيد “ليش متت حتى نحنا نعيش” ويتناقض مع صورة خليل –عبد المنعم عمايري- بائع الكتب على الرصيف الذي يرفض تناول الدواء وحصل على موافقات لدفنه في حديقة المتحف الوطني وحفر قبره أيضاً، ليوظّف المخرج المشهد بتمرير الكاميرا على التماثيل والمنحوتات التي تعبّر عن حضارات سورية المتعاقبة عن تاريخها الأبدي مع الفنّ والإبداع، وليسرد جزءاً من رسالته بدفن خليل وسط هذه التماثيل بدلالة قوية إلى التمسك بثقافتنا وهويتنا وسوريتنا.
وعلى الرغم من أن قصة الفيلم بُنيت كما أوضح المخرج على حادثة واقعية استمدها من قصة شهيد بالقامشلي- حسين حميد- أعاد صديقه جثمانه إلى أهله بالضيعة بعد صعوبات ومواجهات، إلا أنه بنى فيلمه على الرموز والدلالات في زوايا أخرى، ليمضي في مسار آخر في مواجهة الذات والصراع من أجل البقاء تحت هاجس الخوف من القتل، ليظهر في خطّ آخر معاناة المرأة السورية بفنية غير مباشرة بعنوان مسرحية يختزل كل شيء”نساء الموت”، وبوجود نساء الضيعة بحالة صمت يرتدين الأسود بعد أن هجرها الرجال للدفاع عن الوطن، الرمزية التي استخدمها سعيد في الفيلم هي الدفن بإيحاء واضح إلى التشبث بالأرض والتمسك بالوطن ليمسك بخيوط الأمل بغد أفضل برمزية أيضاً بولادة صالح بعد استشهاد والده، وبانهمار الأمطار الغزيرة على وقع استشهاد البطل.
اختار المخرج محافظة إدلب لتكون المكان الفعلي للفيلم فهي ضيعة مجدي التي تنتظر جثمان الشهيد لينطلق المخرج من هذا الحدث، ويعود إلى المكان الثاني دمشق التي تشهد على الأحداث فينتقل مجدي من عمله بالمسرح ومن التحضيرات النهائية لمسرحية “نساء الموت” التي تطرقت بمباشرة إلى المرأة السورية التي عانت من غياب الرجل في حياتها لتردد إحداهن”أقسمت النساء في ضيعتنا أن لاينجبن ذكوراً”، ليبدأ مجدي بأوراق استلام الجثمان، ومن ثم يدخل المخرج برمزية إلى تباين ردود فعل الأشخاص داخل المجتمع الواحد إزاء انعكاسات الحرب على حياتنا معتمداً على قدسية الموت، لنرى الجثمان داخل حوض الاستحمام في الغرفة كنوع من المفارقة، يحيط به أصدقاء مجدي يثرثرون ويضحكون ويدخنون السجائر الممنوعة، وتتطرق إحداهن- ولاء عزام- إلى علمها بخيانة حبيبها، دون أي اكتراث بالموت، لتمتد المفارقة إلى أكثر من ذلك بوجود مجدي في الغرفة المجاورة مع إحداهن وكأن شيئاً لم يحدث، ليوظّف المخرج هذه المتتالية الآنية بالصور ويشير بتورية إلى سلبيات موجودة في المجتمع وتتفاقم، إلى تغييرات تطال المفاهيم وتتلاشى إزاءها القيم والأخلاقيات لتجد نوعاً من المواجهة من قبل رجل الأمن صالح الذي لم تخل مواجهاته أيضاً من بعض السلبيات.
المنعطف في الفيلم كان في الهزة التي أثارها الموت في أعماق مجدي الذي نسي الضيعة وحياته السابقة وكل المسلمات المؤمن بها لتموت أشياء كثيرة بداخله وتتلاشى ويحيا على بقايا مجدي، المنعطف الثاني في الفيلم هو حدث نقل الجثمان بسيارة الإسعاف مع مجدي وصولاً إلى مطار حميميم فتتعرض السيارة للقنص ويموت السائق والمرافق ويبقى مجدي داخل السيارة مع الجثمان في مواجهة الموت، ليظهر المخرج الجانب الآخر من المأساة بانتظار والد الشهيد الذي جسد دوره عبد اللطيف عبد الحميد مع نساء العائلة في المطار ينتظرون الجثمان. يتم إنقاذ مجدي ويعود مع الجثمان إلى منزله ليبدأ المخرج بأساليب جديدة تحرّض مجدي وتحثّه على التفكير بحياته واسترجاع شريط ذاكرته، فيعتمد المخرج على لعبة التخيل ومحاكاة الميت وتبادل الأدوار وإثارة الرجل المختبئ داخل مجدي، ليعيد أيضاً تفاصيل حياته مع نور التي اختلف معها وكانا على وشك الطلاق.
الأمر اللافت في الفيلم هو أداء الممثل محمد الأحمد القوي والذي كان الحامل الأساسي للفيلم والمحرّك للأحداث والذي حاز على جائزة أفضل ممثل بمهرجان الإسكندرية على دوره في هذا الفيلم، لقدرته على تقديم وجوه مختلفة لشخصيته وتنويعه بالأداء وتنقله بين أطوار نفسية مختلفة، ورغم جمال شخصيته وحضوره إلا أنه خطف الأنظار بقدرته على إقناع المشاهد بالشدات النفسية والهزات التي تعرض لها، لنراه بصورة مغايرة لدوره في مطر حمص الذي كان أيضاً بطله الأساسي، كما يحسب للفيلم الحضور النسائي الفعّال لاسيما لمى الحكيم التي تنتظر حبيبها منذ سنتين والتي لعبت دوراً في عودة مجدي إلى شخصيته الحقيقية بمواجهته بهروبه وبخوفه من الموت.
فيلم رجل وثلاثة أيام فيلم مختلف وثّق للحرب السورية من جوانب متعددة وأضاف نجاحاً إلى السينما السورية الهادفة بأخذنا إلى عوالم غرائبية بأساليب سردية سينمائية بعيدة عن المألوف.
ملده شويكاني