هِنري ثورو.. سيّد عصره
على الرغم من أن “المحافظة” أكثر الموضوعات شعبية هذه الأيام، إلا أنها ليست فكرة جديدة، حيث يعتبر الكاتب الأمريكي وعالم الطبيعة والفيلسوف، ديفيد هنري ثورو (اسمه بالولادة) من أوائل وأقوى المدافعين عنها.
عاش ثورو على شاطئ “والدن بوند” على بعد ميل ونصف من قرية كونكورد وعلى بعد ميل من أيّ جار، وكان لديه بعد نظر للتوسع السكاني والتجاري السريعين في أمريكا، ما يعرض الطبيعة للخطر ويبعد الشعب عنها. فأصبح عمل حياته إظهار طريقة حياة مختلفة للشعب الأمريكي، طريقة احتضنت الطبيعة ووضعت الماديات جانباً.
ويرجع نبوغ ثورو الفلسفي إلى تكوينه الأسري فوالده جون ثورو مالك لمصنع أقلام رصاص، لذا أشبع بقراءة الأعمال الكلاسيكية، ووالدته سينثيا، وصفت بأنها “مصلحة بالفطرة” وكانت عضواً مؤسساً للجمعية النسائية لمكافحة الرق. فتكونت الآراء والاهتمامات التي شكلت حياة ثورو في سن مبكرة. وتحدثت قصائده الأولى عن حب الطبيعة.
عاد ثورو إلى منزل العائلة في كونكورد بعد تخرجه من جامعة هارفارد عام 1837، وعمل في صحيفة يطلق عليها آنذاك اسم “Transcendentalist/ المتعالي”، وتأثر بنظريات “كانت وهيغل” وفي عدد تموز 1841عرّف الفلسفة بأنها “الاعتراف بقدرة الإنسان على معرفة الحقيقة بشكل فطري.. الله حقيقة مطلقة وخلق الإنسان على صورته”.
لم يكن ثورو “متعالياً” وحسب، ولكن كما وصفه صديقه وكاتب سيرته إلري تشانينغ، “رِوَاقِي طبيعي”، ويوافقه على ذلك روبرت ريتشاردسون الابن، مؤلف كتاب “Thoreau: A Life of the Mind /ثورو: حياة العقل”. وأوضح ريتشاردسون أن “جوهر الطريقة الرواقية هو التحول إلى الطبيعة وليس الدولة أو المجتمع أو الله، كمصدر للمبادئ الأخلاقية الموثوق بها”. ويدعي ريتشاردسون بأن ثورو أعظم متحدث خلال المائتي سنة الأخيرة بهذا المنطق”.
قامت فلسفة ثورو على وجوب تطوير كل شخص لنفسه من خلال دراسة الطبيعة والأدب الكلاسيكي، ومن ثم ربط ذلك بطبيعته الداخلية. فعلى كل شخص أن “يسلك طريقه الخاص، وليس طريق والده أو والدته أو جاره”.
وبالنسبة لثورو، لا يجب على الإنسان في سعيه لإتباع طريقه الخاص الرضا بالقوانين الظالمة، وهو رأي أعرب عنه في مقالته الشهيرة عام 1849 بعنوان “مقاومة الحكومة المدنية” (أعيد نشرها بعد وفاته تحت عنوان “العصيان المدني”). كتب ثورو فيها عن العبودية وما اعتبره حرباً مكسيكية أمريكية غير عادلة، فمن مسؤولية المواطنين عندما تكون الحكومة ظالمة، مقاومتها.
ويؤكد ثورو أنه ينبغي أن تكون الثروات “الوسيلة وليس غاية الوجود”. ومن المعروف عنه مساعدته العبيد على الفرار إلى كندا في تحدٍّ واضح للقانون، كما أنه قضى ليلة في السجن بعد رفضه دفع ضريبة لسبب لا يدعمه.
وعلى الرغم من اعتبار الحجج التي اعتمدها ثورو في “العصيان المدني” تنبذ العنف، إلا أن عبارتي الجنود والحروب تشكل استعارات مشتركة في كتاباته، فقد كتب في إحدى مقالاته “نقف جميعاً في الصفوف الأمامية للمعركة في كل لحظة من حياتنا”. وغالباً ما يقتبس الناس قوله الأكثر شهرة، “إذا كان الرجل لا يواكب أصحابه، ربما لأنه يسمع طَبّالاً مختلفاً” (كناية لشذوذ أحد الجنود في المسير بجانب زملائه على وقع موسيقى الطبول). وفي محاضرته المشهورة عن العبودية عام 1854 بعنوان “Slavery in Massachusetts/ الرق في ماساتشوستس” ذهب إلى حد القول إنه “بدلاً من إطاعة القوانين التي تكرّس الرق يجب محاولة تفجير هذا النظام”. وقد عزا الكثيرون فيما بعد أعمال جون براون العنيفة (مناضل أمريكي ضدّ العبوديّة) وبخاصة هجومه على القاعدة العسكرية في ولاية فرجينيا، إلى تأثر الأخير بأفكار ثورو.
توفي ثورو عام 1862 وهو في 44 من عمره، تاركاً العديد من الأعمال غير المنتهية. ومع ذلك، فقد ألهمت أفكاره الأجيال، وفي بعض النواحي، أثرت على تشكيل عالمنا. كما أثرت دعوته لإنشاء “محميات وطنية” للمناطق البرية على ثيودور روزفلت، الذي خصص أكثر من 230 مليون فداناً خلال فترة رئاسته لذلك الأمر، وأشاد “بالقيمة الأدبية الفريدة” لأعمال ثورو. ومن أهم من استلهموا أفكارهم في حركاتهما الاجتماعية الرائدة في القرن العشرين، المهاتما غاندي ومارتن لوثر كينغ الابن وبخاصة من مقالته الأشهر “مقاومة الحكومة المدنية”.
انصبّ اهتمامه على النهوض بالعدالة بأي وسيلة ضرورية. وقد يشير نقاد فلسفة ثورو أن تعزيز العصيان المدني سيؤدي إلى الفوضى، لكن اعتقاده بوحدة العالم تحت سقف قانون عالمي وأخلاقي يستند إلى الطبيعة يعفيه من هذا النقد.
ويبقى الإرث الأعظم لثورو في القرن الحادي والعشرين، الوعي العالمي المتزايد بأن الطبيعة من حولنا تستحق قَدراً أكبر من الاحترام مما كنا قد اعتدنا على إظهاره.
سامر الخيّر