ثقافة

إبداع بالمسؤوليّة!

اعتاد كثيرون منّا؛ إن لم يكونوا غالبيّتنا، على ممالأة المسؤول فينا أو عنّا؛ فنتصاغر أمامه، أو نتكابر معه وبه، ما بقي مسؤولاً؛ كما دأبنا على مقاربة أصحاب النفوذ في أيّ مجال وميدان؛ متمسّحين بجوخهم، مثمّنين ما يقومون به، معظّمين ما يمتلكون من إمكانيّات، مُعجَبين بما يقولون، ومغرَمين بمن وما يعجبهم، ومشدوهين من نباهتهم، وحسن أدائهم، ونفاذ بصائرهم.. ونتبارز في الاستزلام، ونتسابق إلى التبعيّة، ونمارس كلّ ما يمكن، في سبيل أن نفوز بالمرتبة الأدنى، ونحوز على أكبر كمّيّة فُتات، تُلقى إلى جمعنا! طالما كانوافي “عزّهم”؛ مسموعي الكلمة، لا تردّ طلباتهم أو أوامرهم؛ لعلّنا نعيش في ظلالهم، و”نسرح” في مروجهم، ونبقى في “جاههم”؛ كما عبّر واحد منهم عن بعضنا، يوم كان ما كان!

أمّا حين ينقلب بأحدهم القارب، ويصبح في خُسرٍ، وتُسدّ أمامه المنافذ والمعابر، ويسقط في شرّ أعماله، أو قتامة نيّته، أو ضلال خياراته، وسوء سلوكه؛ فنكون أوّل المنفضّين المنبتّين الشامتين، الناشرين ما يقال وما لا يقال، ما صحّ منه وما كان مختلَقاً…

هذهبعض ملامح الحالالعامّة غير السليمة، التي تظهر بأقسى مظاهرها، وأمرّ مواجعها في الأزمات الخانقة والكوارث الكبرى؛ويمكن تفهّمها أو تفسيرها، من دون تسويغ أو تشريع؛ لأنّ الناس عبيد مطالبهم، التي تزداد حدّة، ومرتهنون لحاجاتهم التي لا تنتهي، وفي كلّ زمان ومكان؛ بهذه الدرجة أو تلك.

لكنّ هذه الحال، حين تسود في الواقع الثقافيّ، تكون فاقعة ومزريةوممجوجةومنكرة أكثر؛ لأنّها تتناقض مع الوعي، الذي توحي به الثقافة، وبأيّ درجة، ويُفترض أن تبدو على المشتغلين في هذا المجال قولاً وكتابة وسلوكاً… وينسحب الأمر نفسه على الإعلام، الذي تنفتح كوّاته على المسؤولين الثقافيّين، وتبحث الإضاءات عنهم، ويتسارع التواصل معهم؛ والخطو إليهم؛لقاءات وبرامج وصفحات وزوايا!

والمسؤولون هؤلاء وأولائك، سرعان ما تظهر إبداعاتهم؛ ولا سيّما في الشأن الثقافيّ، بعد أن يستلموا مواقع ومهمّات؛ فيصبح الحديث لهم وعنهم، وتصبح المنابروالمراكز رهن رغبتهم أو نهمهم،والدوريّات تغصّ بهم، تلك التي تقع في إطار مسؤوليّتهم،أو خارجها! وتغدو “إنجازاتهم” وإبداعاتهم، ما سبق منها، وما سيلحق، هي موضوعات الأحاديث والتقريظ والقراءة والتحليل، مع المبالغة والتفخيم؛ بمفهومات واستنتاجات ومصطلحات جديدة، ومن قِبَلِ الكتّاب والنقّاد والقرّاء القريبين والبعيدين!.. هذه النتاجات التي ستتضاعف خلال سنوات المهمّة؛ (أحد المسؤولين المهمّين، كان له كتاب واحد، عند استلامه مهمّته، ثمّ انفلتت القريحة، وتكاثرت الكتب، وفتحت الأبواب والمسارات… أمامه!!)؛ ناهيك عن الدعوات والاستضافات والفتوحات الداخليّة والخارجيّة!

فيما تتعثّر مخطوطاتٌ لمواهب حقيقيّة، في طريقها إلى الموافقات والنشر، أو تتأخّر، لدى قرّاء المؤسّسات المعنيّة، قبل أن تعود إلى أصحابها، لتختزن، إلى درجة التعفّن؛ لأنّ ما من سبيل إلى نشرها؛ فلا أصحابها قادرون على دفع تكاليف طباعتها، ولا هم نافذون أو “قريبون”؛ كي تُتبنّى مخطوطاتهم في المؤسّسات أو دور النشر الخاصّة؛ ناهيك بالكتب التي حظيت بالموافقة على النشر، وتنتظر (دورها)! فيما كتب أخرى لمحلّلين ونقّاد وكتّاب ومسؤولين.. تظهر في أكثر من طبعة، وأكثر من مكان!

وما بالك بالكتب التي طبعت، ولم يلتفت إليها أحد؛ لا صحفيّ ولا إعلاميّ، ولا قارئ؛ فأصحابها ليسوا مسؤولين، وليست لهم علاقات مؤثّرة مع المهيمنين على مفاوز الضوء،ومنافذ “الهواء” المباشر وغير المباشر، ومساحات النشر؛ أمّا من كانوا مسؤولين، وكانت لهمكتب وأفكار ورؤىومواقف وزوايا، وقدّمت مطالعات نقديّة عنهم وعن كتبهم وإبداعاتهم، ومنهم من استحقّ، وما يزال يستحقّ ذلك؛ فسيعودون إلى الظلّ، الذي خرجوا منه بطفرة، أو بقدرة قادر، ويقبعون في الظلمة؛ لأنّ الأشعّة لم تعد تلتقطهم، والأقلام لا تذكرهم، والبثّ لا يطالهم، والمنابر والمواقع تكاد تكون موصدة أمام خطوهم، حتّى إن أرادوا الزيارة والتواصل الإنسانيّ…

غسّان كامل ونّوس