ثقافة

“لوتس” غسان مسعود تعبق في مسرح الحمرا

موهبة واعدة أظهرتها الكاتبة المسرحية “لوتس مسعود” في العرض المسرحي المقام على خشبة الحمراء “كأنو مسرح”، الذي يقوم بإخراجه، غسان مسعود، إضافة لتصميمه السينوغرافيا له.

هناك دلائل قوية تشير إلى أن هذه الكاتبة لديها فرص قوية في أن تعيد للكتابة المسرحية السورية حضورها على الخشبات، ويبدو أنها مجبولة من طينة الكتاب الكبار، سعد الله ونوس، ممدوح عدوان، محمد الماغوط، والذين بعد رحيلهم تعرضت الكتابة المسرحية السورية للشلل، فلجأ بعضهم إلى نصوص أجنبية، لا تنفع معها محاولات الدرامتورجية الفاشلة في فهم معنى الدرامتورجية ووظائفها، كان يصيب تلك المحاولات بالفشل في توطين النص الغريب، والبعض الآخر الذي حاول التأليف، لم ينجح، فزاد بذلك من مصداقية النصوص المستوردة.

الآن تنهض هذه الكاتبة في محاولة جريئة، بلسان حال يقول: (القصص لا يجب أن تستورد، بل يجب أن تكون صناعة وطنية) المحاولة بحد ذاتها تحسب لها، فكيف أن يكون النص متكاملا فوق ذلك؟ فهي تتناول بمهارة مفهوم الشخصيات والصراع الدرامي، الترميز الكثيف، والحرفة الفنية الجديدة، وذلك كله في ثيمة توجه إدانة وتنديد بوضع مثقفي هذه الأيام، ممن ينشغلون بالخلافات والسجالات، عن حال البلاد، فقامت الكاتبة بلمسة فنية ساحرة بتأسيس شخصية بسيطة “أبو رضوان”: تعمل بوظيفة عادية في المسرح، لتظهر شفافيتها مقابل زيف المثقفين، فيا لهذه المهارة في تأسيس شخصية من داخل عالم المسرح وفي نفس الوقت هي تمثل العامل العادي “فران، عامل ..الخ”!، وهكذا يتحقق مفهوم المسرح داخل المسرح، بحرفة منقطعة النظير في النص.

يُعرف نوابغ كتّاب المسرح العالميين، بمهارتهم في كتابة نص مسرحي، يحقق شرط “مسرح داخل المسرح”، كما فعل “شكسبير” عندما جعل “هاملت” يقيم عرضا يحاكي الجريمة التي وقعت، وكما فعل “لويجي برانديللو” عندما دفع بست شخصيات إلى الخشبة، وكما فعل “جان جينيه” عندما جعل الخادمتين، تتناوبان أداء دور السيدة، أو كما فعل “الماغوط” في “كاسك يا وطن” في المشاهد الإخبارية المنوعة التي كانت تتخلل العرض، وكما فعل أيضا “هنريك إبسن” في نصه “البطة البرية” عندما تطلب واحدة من الشخصيات من شخصية أخرى، أن تقتل بطة، لتعبر عن حبها لوالدها، فتقتل نفسها، أي أنه طلب منها أن تلعب دورا داخل العرض، هذه الكاتبة الجريئة تشتغل بنفس المزاج، وتعمل على ذلك وتقارب بنجاح هذا الشرط المسرحي الصعب، وفوق ذلك تبرع فيه، فهي لم تحقق فقط شرط “مسرح داخل المسرح” بنجاح؛ بل لقد أضافت مسرحا ثالثا موازيا لهما.

النص يتناول مخرجة تشتغل على عرض مسرحي، فعندما تتصرف المخرجة بشكل عادي وتوجه إرشادات إلى أعضاء فرقتها أو ينشب شجارا بين الممثلين، فهذه الفُرجة الأولى التي تحدث في العرض، الفُرجة الثانية والتي هي داخل الأولى، تتبدل عندما يبدأ هؤلاء بتمثيل أدوارهم، أما النقطة التي تشير إلى أن هذه الكاتبة تفهم جيدا ماذا يعني المسرح داخل المسرح على طريقة الكتاب الكبار، قلا تكتفي فقط بالمسرح داخل المسرح، بل تندّ بهم بلسان حال يقول: “ها أنا اصنع مسرحا ثالثا إلى جوار المسرحين” وذلك بتأسيسها شخصية تعيش على هامش ما يحدث على الخشبة، وهي شخصية الناطور التي نرى الأحداث من منطقها، وهذا هو المسرح الثالث، الذي يغلف المسرحيين الآخرين، هناك إذا، في هذا النص المسرحي، شخصية حارس تتفرج على المسرح الأول المتحقق بالمخرجة وهي تتكلم مع أعضاء الفرقة عن شؤون العرض، تحاول حل خلافات الممثلين، والمسرح الثاني عندما يقوم الممثلون أنفسهم بالدور، فتغمز الكاتبة بمهارة من قناة إبداعية مبهرة، إن خلافات المثقفين ونقاشاتهم، ليست إلا كوميديا أمام مأساة هذا المواطن البسيط، الذي ينظر إلى خلافات “المثقفين” السوريين، على أنها عرض هزلي، فيتبنى الجمهور موقف الحارس، ويتعاطف معه، ولسان حال هذا الحارس يقول: إن خلافاتكم ومواقفكم وثقافتكم: “كأنو مسرح”، الكاتبة كانت ذكية حتى على مستوى العنوان.

يقول التكعيبي الهولندي موندريان -1872-1944: “الفن في جوهره هو تعويض عن انعدام التوازن في الواقع” ربما لا نتفق مع هذا الرأي الوجيه، مع أنه يمكن الاتفاق على أن عدم توازن الواقع، هو فعليا سبب كبير لصنع الفن، الذي يريد صانعه إما تجميل الواقع، أو التنديد به، ولذلك فإن أجمل الأعمال الفنية تأتي عندما يختل توازن الواقع إلى درجة كبيرة، وهو ما حدث مع الواقع الذي تتحدث عنه الكاتبة، ومنه اقتبست نصها المسرحي، فنحن نعيش في مجتمع فيه نماذج من المثقفين، مثل أعضاء الفرقة المسرحية الذين يعيشون رفاهية الفن، بجانب الموظف البسيط، صاحب الوضع المأساوي، بينما هم أصحاب الشأن المثير للسخرية، وهنا ترقى الكاتبة بالنص، إلى مستوى نوع عريق من الدراما وهو الكوميديا السوداء، والتي من أهم ملامحها أنها تمس المحرمات، وهناك دليل من الواقع على نجاح هذه الكوميديا السوداء، فوضع البعض من المثقفين لا يختلف عن وضع شخصيات المسرحية، يخوضون الحرب عبر شجارات بسيطة، فهي بالنسبة إليهم شجارات ونقاشات ليس أكثر، لقد وضعتهم الكاتبة في مواجهة مع أنفسهم، من خلال تقديمها شخصيات واقعية، إلى درجة أنه كان هناك من بين الجمهور من يتطابقون مع شخصيات العرض، فقرروا الانتقام منه باعتباره يندد بنموذجهم أولا، من بين هؤلاء كان ثمة صحفيون، الذين خرجوا من العرض وبدؤوا فورا بكتابة المقالات التي تتناول هذه التجربة، فمثلا تمّ التنويه بشخصية الحارس، المرسومة ببراعة من قبل الكاتبة، والتي لو لم تكن مقنعة، لما استطاع الممثل أن يؤديها بشكل جيد، فالممثل مهما كان ماهرا، لا يستطيع أن ينجح مع شخصية رديئة، فأشادوا بالممثل وبعضهم غمز من قناة، أنها مأخوذة عن شخصية حارس مسرح “القباني” الواقعية، فمنذ متى لا يأخذ الكاتب شخصياته من الواقع؟ وهذه سمة إضافية للنص الذي يستند على الواقع وينشأ من بين الناس، ويريهم أنفسهم على الخشبة.

تمّام علي بركات