ثقافة

بسام كوسا.. الفنان الضرورة

نسق خاص في فن الأداء التمثيلي المنفرد، خطّ خطواته الشاقّة الفنان الضروري “بسام كوسا”حلب-1954-  في مسيرته الفنية التي لم تبدأ هذه المرة من الأكاديمية السورية للتمثيل، كما هي الحال مع العديد من “مجايليه” من الممثلين، فالرجل جاء من عوالم التشكيل والنحت، باعتباره خريج كلية الفنون الجميلة، إلى عوالم التمثيل، من نحت الفراغ ليصبح ملموسا وأكيدا، إلى نحت الشخصية التي سيؤديها، فتصبح قائمة وحقيقية وطازجة أيضا، ما يعني أنه جاء بموهبته “البيور” الصافية، التي لم تخربها ذائقة تلك المدرسة الفنية في الأداء أو تلك، مبتعدا وبشكل واع عن “الأوفرة” التي يتسم بها المسرحيون عامة-رغم اشتغاله في بداية حياته المهنية في المسرح- وذلك في أدائه المنضبط بإدراكه الشخصي لعوالم الشخصية التي يقدمها، سواء تلك الفيزيولوجية منها أو النفسية، أو كما يقال إنه ينفذ إلى جوانيات الشخصية المكتوبة على الورق، ليحيلها بأسلوبه الفريد وتقنياته المتعددة إن كان في مظهره أو مخبره، إلى شخصية حية، من لحم ودم، فيها كل ما يجعلها مصورة بأبعادها الثلاثية،حتى تلك التي لا تظهرها الكاميرا بشكل واع ومقصود، وهذا ما جعله يدرك في مرحلة ما خصوصا في بداية عمله الدرامي التلفزيوني، أنه الفنان “الضروري” –كما وصف نفسه في إحدى المقابلات التلفزيونية- ما يجعل انتقاءه للدور الذي يريد تقديمه والظهور بمظهره، محكوما بالعديد من الظروف والشروط الصعبة التي يضعها هو لما يريد أن يلعبه ويقدمه، فهو كما يقول على لسان بطل فيلم “الكومبارس”- تأليف وإخراج “نبيل المالح- إنه في أدوار الكومبارس المختلفة التي يؤديها خارج وقت عمله الأساس كميكانيكي،”يموت تحت الطلب، في شخصيات مختلفة يقوم بها بكل طاقته في أي عمل مسرحي، فهو عندما يؤدي دور عسكري يموت فداءً للوطن،وفي دور المواطن يموت من الهم، وفي دور الشحات يموت جوعا”، لذا فهو يعلم تماما مواضع القوة في الأداء، وذلك من خلال قبضه بإحكام على مفاتيح الشخصية التي يستلهم مفرداتها أثناء قراءته السيناريو، وفي الواقع، فإن أكثر ما جعل من الفنان بسام كوسا، فنانا ضروريا،إن كان بعرفه وبعرف المتابعين الكثر لأي عمل يحضر فيه اسمه، هو أن الشخصية التي يقدمها، من الصعب بل ربما من المستحيل، أن يقوم فنان آخر بلعبها، ولن يغامر أيضا أي فنان أخر بتجريبها في مكان آخر، لأنه سيصبح في موضع المقارنة معه، وهذا ما ليس في صالحه بتاتا، مالم يكن تحقيقها أساسا من الصعوبة بمكان، بحيث لا يستطيع العديد من الفنانين أن يكونوا بنفس السوية الفنية في الأداء، لهذا ولغيره من الأسباب أيضا، يقال وبكل يقين أنه فعلا كما وصف نفسه بـ “الفنان الضروري”.
ورغم المسيرة الفنية الطويلة التي خاض غمارها بسام كوسا، ورغم تقديمه للعديد من الشخصيات الدرامية سواء في السينما أو التلفزيون أو المسرح أيضا، إلا أن شخصيته المركبة “نجيب” رب الأسرة الأخلاقي والمبدئي حتى النهاية، التي أداها بعبقرية بالغة في مسلسل “الفصول الأربعة”، هي من الشخصيات البطلة في ذاكرة الجمهور لهذا الممثل، رغم أنه كما أسلفنا سابقا، عرفه سينمائيا وحتى تلفزيونيا قبل ذلك بكثير، إلا أن اشتغاله كحرفي ماهر على التفاصيل حتى تلك البسيطة في الشخصية المذكورة، جعلها الأقرب إلى وجدان الجمهور، الذي بدأ يرى فنانا مختلفا في أدائه وفي منطق هذا الأداء، وصار لدى الجمهور معادلة بسيطة يعتمدها في متابعته لهذا العمل أو غيره، بسام كوسا في مسلسل ما، هذا يعني أنه عمل يستحق المتابعة، خصوصا في الزحام الدرامي الحامي الوطيس، الذي يضرب أطنابه في سوق الدراما الرمضاني، وهذه لوحدها أي المعادلة الجمهورية، تكفي للقول إن لدينا فنانا خاصا ومميزا بأدائه الذي ينبغي أن يكون له مدرسة خاصة بنوعه، تقوم بتدريس طلابها هذا النوع من الأداء التمثيلي، باعتباره متفردا ومتألقا، كما أنه صاحب جماهيرية سلفا، على غرار العديد من الفنانين العالميين، الذين صار أداؤهم وأسلوبهم في فن التمثيل، مدرسة لها طلابها من كافة أنحاء العالم، كما الفنان “روان أتكينسون” في شخصيته الشهيرة “مستر بن” والتي صار أسلوب تأديته لها ولتفاصيلها المتعددة التقنيات، مدرسة فنية قائمة بحد ذاتها.
بسام كوسا يقدم وبصدق أيضا، صورة مشرقة عن الفنان المثقف، صاحب الهم الثقافي والاجتماعي والإنساني وحتى الفكري والفلسفي، وكان له أن كتب العديد من المقالات النقدية السياسية والاجتماعية والفنية، في الصحف والمجلات السورية والعربية، وصدر له أيضا مجموعة قصصية تحت عنوان “نص لص” الكتاب الذي لم يأخذ حقه نقديا، كما لم يسع مؤلفه لأن يروج له من خلال اسمه كفنان، وهذه ميزة أخلاقية أيضا تدل وبوضوح، على أن الأدب والموهبة الحقيقة والاشتغال الماهر على التفاصيل، وخلف هذا كله الصدق مع الذات أولا، هو ما يجعل الفنان نجما حقيقيا، لا من ورق “لميع”، ومن كتاب “نص لص” نورد بعض المقتطفات التي تبين بكثافتها ودلالتها، الش              خصية التي خطتها ورسمت أبعادها ومعانيها ومنها (الفكر النقي يعذب صاحبه/ الصفاقة هي أن تسكت عن الصفاقة/أينما وجهت وجهك قابلتك الصفعات/ آه كم يسمو بنا الحب ويجعل منا أناسا حقيقيين! وآه كم يقسو علينا الحب ويجعل منا أناساً فاقدي الرشد شرسين).
تمّام علي بركات