ثقافة

الدراما وعمق التأثير في المشاهد

يشعر “أسعد خرشوف” في واحدة من حلقات العمل الدرامي التلفزيوني “ضيعة ضايعة” بالقهر وبقلة قيمته عند أهل ضيعته، خصوصا من كبارها كالمختار ورجل القانون رئيس المخفر -في إسقاط على العلاقة بين المجتمع والفرد من جهة،وعن علاقتهما مع بعض المؤسسات الحكومية، التي تظهر وكأنها هي السبب في تحويل الشخص إلى مجرم من جهة أخرى، -وكأن الجريمة هي دائماً ردّ فعل على الظلم، وليست في بعضها،ذات منشأ نفسي مستعدّ أساساً لها- يترك أسعد القرية، ويقرّر أن يحيا في الجبال بين الوحوش، لأن أحداً من أهل القرية لا يقيم له وزناً، وعندما يلجأ إلى المختار، الذي هو كناية عن السلطة الاجتماعية المدنية في الدولة، ليعيد له هيبته بين الناس، يعمد “البيسة” إلى إذلاله أكثر، وعندما يلجأ إلى الشرطة التي هي السلطة القانونية في البلاد، يسخر منه “أبو نادر وحسان” رجلا الشرطة في أم الطنافس، وتُمسح كرامته في الأراضي كما يقال، وعوضاً عن أن يأتي الحل لمشكلة “أسعد” عن طريق جهة لها صفة اعتبارية محترمة بين الناس بغاية الموازنة بين الجانب السلبي والإيجابي في شأن حساس كهذا، يجيء الحل على يد “أبو شملة” المجرم الذي لا يحسب أي حساب لأي سلطة أهلية وقانونية في البلد، وينصح المجرم “أسعد” بأذى الناس هذا إذا أراد أن يكون محترماً من قبلهم، يقتنع “خرشوف” بالتحوّل إلى مجرم ويقوم بصفع “الياهمالالي” ومن ثم “أبو نادر وحسان”، وهكذا تحوّل الرجل الوديع إلى مجرم والسبب هو الدولة، حسب العمل الآنف الذكر، وغيره أيضا من الأعمال الدرامية المحلية التي قدمت شخصية موظف الدولة بأبشع الصفات، التي حتى لو صدقت كلها واجتمعت في شخص ما، فلا يجوز تعميمها وجعلها هي القاعدة!.
في نهاية الحلقة تجد الشخصية “أسعد” عدّة فوّهات لبنادق حربية، عائدة لرجال الشرطة والأمن معاً، مصوبة إلى رأسه، ومن المعروف أن كلا من جهاز الشرطة وجهاز الأمن، هما جهازان منفصلان في المهام والواجبات، لكنهما يظهران معاً عند الكاتب وفي الكثير من المناسبات والمصادفات المدبّرة وكأنهما متفقان على توقيت واحد، حيث يُلوى عنق الحدث ليقع، وعلى الشاشة تظهر كلمات تعتذر من متابعة بقية المشاهد وما سيحدث لجودة وأسعد من عنف على يد القانون، تاركين لخيال المشاهد أن يتصور ويتخيل الفظاعات التي ستحدث بهما، دون مراعاة وجود فروق في الوعي الاستيعابي بين الناس، ربما يرى الكاتب أنه عندما يصبح الشخص مجرماً بضربه لرمزية مؤسسات الدولة، فيجب على المشاهد أن يستنكر أن تقوم الدولة بمحاسبته فهي السبب في كونه مجرماً!.

ما سبق هو واحد من أمثلة كثيرة عن الكيفية التي تعاطت بها الدراما المحلية عموما مع شخصية الموظف الحكومي! وكانت درامانا بأنواعها “سينما- مسرح- تلفزيون” وفي العديد من مفاصلها قد تناولت صورة رجل القانون “الشرطي”، وقامت بتقديمه وفق كليشيه لم تتغيّر مذ بدأت المواضيع الاجتماعية والقانونية، التي تعني الصحافة بالمقام الأولى، بالهجرة غير المفهومة السبب، من صفحات الجرائد إلى ورق السيناريو، وهذه الكليشيه التي تظهر الشرطي بالمواطن الفاسد واللاأخلاقي، المرتشي والمخادع، كان لها كبير الأثر في خلق فجوة بين الناس والقانون متمثلاً برموزه، ولكن هل تقديم رمز القانون بهذه الصورة، صحيح وطبيعي، أم أنه مبالغ فيه ويحمل بعض التجنّي المبطن بين طيّاته كي لا نقول الجهل أيضا!.

المشكلة أن التركيز المستمر والتقليد السائب على إظهار صورة الموظف الحكومي، إن كان في القطاع العام أو في المؤسسات ذات الصبغة القانونية، كرجل الشرطة مثلاً، بصورة المرتشي والبعيد عن القيم ومعدوم الضمير، هو من الأخطاء التي ما كان يجب السماح بها في الدراما، فأمور خطيرة كأمن البلاد والعباد لا تناقش ولا تطرح في الدراما، وهي إن طرحت فيجب توخي الحذر الشديد لدى طرحها وعدم التهريج على الأقل في شؤونها، فإظهار رجل الشرطة إما كمرتشٍ وفاسد وعميل مثل “أبو جودت” باب الحارة، وأحمق ودون أي قيم قانونية مثل “أبو نادر” ضيعة ضايعة”، وغيرها الكثير من الشخصيات التي قدّمتها الدراما السورية بأنواعها، يريد أن يقول ببساطة إن هذه الشريحة التي مهمّتها الحفاظ على القانون، هي من تفتقر إلى أدنى القيم الأخلاقية، وهي الخارجة عنه، وبالتالي ليس من حرج على البقية الباقية من الناس، إلا أن تتخلى بدورها عن قيمها، ليصبح عندها القانون عائقاً اجتماعياً في متابعة حياتها، فتعمل على تخريبه وكنا رأينا هذا يحدث خلال السنين السبع الماضية محليا وعربيا –سورية ومصر-وعلى أيدي أناس تأثروا أول ما تأثروا بهذا الفعل من الدراما التلفزيونية نفسها، حتى أن بعضهم راح يسمي نفسه وهو يوجه سلاحه إلى أهله، تارة “العكيد” وتارة “الحر” وتارة “أبو شهاب” وفي هذا دليل عميق أيضا، عن مدى خطورة وتأثير الدراما في المجتمع والناس، حيث تحكم مثلا البلد الأول في الصناعة السينمائية أي “أمريكا” تحكم العالم بهذه الصناعة القائمة على الحكاية، أكثر مما تحكمه بالسلاح، لكنها في المقابل لن تسمح لصورة رجل القانون عندها، أن تهتز في عيون الناس أو تخسر حتى ولو معنويا في ما تقدمه، ومقابل وجود شرطي فاسد في عمل درامي سينمائي أمريكي مثلا، سنجد مقابله العديد من رجال الشرطة الشرفاء، والذين يحاربوه ويقومون بإنهاء حالة فساده واعتقاله، ليصار إلى محاكمته.

المشكلة أن هذه العقلية والمستوى الفني المتدنّي الشعور بالمسؤولية، التي تبدأ أوّل ما تبدأ عملها في المجال الفني عموماً، بتقليد من سبقها في التركيز على تشويه صورة القانون، بحجة أن الدراما تعكس الواقع، تقوم بقصد أو من دونه بجعل فساد الشرطة “كليشيه” فنية تتوارثها الأجيال دون أن يفكر أحدهم بخطورة الموضوع ولا بتأثيره ومصائب تكريسه في المجتمع الذي يضمّ العاقل والمجنون، الملتزم والخارج عن القانون معاً، المثال ليس محصورا في عمل درامي واحد كما أسلفنا، بل يكاد لا يخلو منه عمل خصوصا في الدراما التلفزيونية،حتى صار الناس على يقين بأن كل رجل شرطة فاسد بطريقة ما، وعندما يفسد هذا الجهاز، من الطبيعي أن تفسد الحياة!.

هذا غيض من فيض من الأمثلة الكثيرة التي يمكن إيرادها عن المدى الكبير، والأثر العميق، الذي تستطيع الدراما بأنواعها، لعبه في تشكيل وعي معين، أو خلق رأي اجتماعي عام، لذا يجب وبكل حرص وموضوعية، على الكُتاب والشركات المنتجة، توخي الحذر في التعامل معها على أنها شأن صناعي للربح فقط، رغم أنها كذلك فعلا، لكن يمكن لها أن تكون صناعة رابحة ومنتشرة دون حاجتها إلى القدح والذم والعري وغيره من المواضيع المستهلكة وبشدة، بينما لدينا في كل طريق، عشرات القصص البديعة التي يمكن أن تحكى وتحقق مبيعا جيدا لأي عمل درامي يلاحظها ويقدمها بحرفية وفنية عالية المستوى تليق بها.

تمّام علي بركات