حكايات عابرة للحكايات
صحيح أن الواقع سيشكل إلهاماً للمتخيل، حتى يبدو المتخيل وكأنه واقع جديد، وفي الحكايات السورية المختزنة في أقاصي الوعي الجمعي، ثمة ما يرهص بإشاراته وعلاماته، ليجهر بما هو محلوم به، إذن كيف تبنى الحكاية المستقاة من ذروات الألم، ومن تسارع الأقدار الحاكمة على مشهد يتغير كل لحظة وكل دقيقة، إن لم تكن ثمة لغة ثرية تنفتح على ذلك المتخيل الجديد بوصفه الواقع المحلوم به، وهذا ما يستدعي في الراهن غير سؤال يختص بما يُنتج لاسيما على المستوى البصري، وما يُحيلنا إليه تعبير الصور الكثيفة ودالات الحضور لأناس حالمين بما تستطيعه الذاكرة من شرف العبور إلى اللحظة السورية الفارقة، وعلى المستوى الثقافي، إذ الثقافة هنا مازالت تشكيلاً جمعياً لا تنتقص منه الأداءات الفردية، بل لعلنا نتوسل توازناً مقصوداً ينجز في المشهد الثقافي غير علامة مستحقة على الرغم من أنه مازال يقال مثلاً إن الرواية الأكمل لم تكتب بعد، وهذا يعني في الراهن الإبداعي مازلنا على تخوم الإشارات والتحولات، التي ترهص بما هو قادم ولو تأخر قليلاً، فالمنتظر دائماً يشي بالجديد، وهكذا فإن عبارة لا جديد تحت الشمس، هي جديدة كلياً لأن الشمس قدرها أن تشرق من جديد.
ما هي أقدار تلك الحكايات المنتظرة، وهي المضرجة بما يكفي من الألم وما يفيض من الأحزان المقيمة، لكن شأنها أن تسفر عن أفراح ومسرات، أكثر منها ما يعني ترويض الألم، وأرضنة الأحزان، فهل تأخذنا الصورة في درامانا إلى تعبيرات مختلفة؟، وسيكون التوثيق محض هاجس لديها فحسب، الصورة التي تستقرئ في الدراما مثالاً تحولات الروح السورية وتوقها أبداً للخلاص وكتابة سيرتها الجمعية، سيرة الرؤيا والرؤية، وسيرة مكوناتها التاريخية والحضارية والثقافية، وليس ما استدخل في نسيج وعيها قسراً، واستنبتت في ذلك النسيج أيضاً أفكار ومصطلحات، تكاد خفتها لا تُحتمل.
وإذا كنا هنا لا نقصد عملاً بعينه، فما نقصده هو الثقافة بالمعنى الكلي بوصفها التعبير المنشود عن ثقافة شعب، يجيد تشكيلها بوعيه الثاوي في تضاعيف ذاكرته ويومياته، ولعل متلقي الصورة التي يراهن عليها بكثير من الاختلاف، فهو متلقٍ جديد، أي بتغيير أنماط التفكير والسلوك، بدءاً من استراتيجيات النص الدرامي، وليس (ظرفياته) العابرة، واحتفاءً بالحكاية وبالقدرة على استنطاق تخومها وأجزائها، حتى تتمثل فيها تجليات الوعي الحارس.
وبهذا المعنى لا تعبر خطابات الماضي في حيز الاستعادة إلا بوصفها منصة للانطلاق إلى الحاضر، وليس «توثينها» وتنميطها بدواعي الألفة، وهذا في حيز الاستقبال وما تتكشف عنه مصادر التلقي المتجاوزة أصلاً للعروض والأعمال خارج طقوس مناسباتها.
وانطلاقاً أيضاً من تلك التسميات الملتبسة التي تحيل إلى تقسيمات لا مبرر لها، تتوزع على أنواع العمل الدرامي وتسمياته الفلكلورية أكثر منها تأسيسية في الوعي، وهذا يعني أنه في رسم الكتّاب والمبدعون الدراميون ما هو أكثر من منتظر، خارج حدود الترسيمات والمحاصصات، واستسهال قواعد اللعب، وذلك ما يهدر كثافة النص الدرامي ويحيلها إلى أشتات تجمعها (ثقافة العناوين) وليس فعاليات الأداء الدرامي وحده، أو سلطة المقولات التي تحملها تلك النصوص، حتى نذهب إلى التفكير بقلق مشروع، فما زلنا نقول وفي هذا السياق بالذات، إن درامانا هي صناعة وطنية ثقيلة بامتياز، وقد قطعت شوطاً في مسيرتها وفي إضافاتها النوعية عبر نصوص قادرة أكثر من تلك النصوص المتوسلة إعجاب المتلقي واستمالته عاطفياً لا فكرياً، لترتسم في الآفاق نهضة درامية مستمرة، وقادرة على مفارقة السائد ومحاكاة الوطن بأُناسه وحكاياته التي لا تنتهي، وبممكنات إبداع لا يأتي من فضاء المصادفة بل يأتي من استحقاق الضرورة، التي تجعل الوطن حاضراً أبداً ببلاغة حكايات الناس.
أحمد علي هلال