ثقافة

بعل إله الأراضي والخضار البعلية في سورية القديمة

كشفت النصوص الأوغاريتية (الرُّقُم) أنها تحتوي على الكثير من الأساطير والملاحم التي تكشف رموزها عن فكر ديني عال، وكذلك عن نماذج لعبادات وميثولوجيا شاعت في سورية منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، وقد فتحت هذه أعين الباحثين على أهمية إله المطر السوري (بعل)، لأننا لم نكن نعلم عنه أو عن أي إله سوري سوى القليل الغامض مما تسرّب من المصادر الإغريقية.
لقد أظهرت أساطير أوغاريت حقيقة رائعة، وهي أن الدين السوري القديم لايزال حياً، وأن الكثير من الأفكار والصور الدينية التي تجلت في أساطير أوغاريت كان لها أثر كبير على الفكر الديني الذي لايزال مسيطراً على اللاهوت الحديث من جهة، وعلى المعتقدات الشعبية الدينية من جهة أخرى، هذه الأساطير تنبهنا أن (بعل) إله المطر والخصب قد دامت عبادته في العصور الإغريقية والرومانية، وأنه بصفته الإله الذي يموت في الشتاء، ويعود إلى الحياة في بداية الربيع مع عودة الخصب، قد ترك أثراً لا يمحى على المعتقدات الشعبية بسبب التواصل التاريخي بين (بعل) القديم، واللاهوت الحديث.

بعل في العصر الهيلنستي
مع احتلال الاسكندر المقدوني لسورية، دخل الهلال الخصيب بأكمله في دائرة التأثير الهيليني– الإغريقي، بما في ذلك الفترة البيزنطية حتى الفتح العربي– الإسلامي سنة 635م، أي ما يقارب ألفاً من السنين 332 ق.م – 635 م.
خلال القسم الأول من هذه الفترة حكم السلوقيون سورية، وجعلوها عاصمتهم، ولفترة بسيطة حكم البطالنة جنوب سورية من عاصمتهم في الاسكندرية، لكن التأثيرات الحضارية كانت واحدة، وقد شملت سورية، وما نسميه الآن منطقة الشرق الأوسط، ومن أوائل القرن الثاني ق.م أصبحت روما سيدة سورية الغربية عام 64ق.م، ومنذ ذلك التاريخ انتقل مركز السلطة السياسية على سورية إلى الخارج حتى أعاده الأمويون إلى دمشق 661م.
في الفترة الإغريقية– الرومانية هاجر الكثير من الإغريق والمقدونيين إلى سورية، وسكنوا في مدن أقيمت خصيصاً كمستعمرات مثل أنطاكية، واللاذقية، وأفاميا، وقد تبنت هذه الجاليات الثقافة السورية المحلية، والأفكار، والمعتقدات الدينية، والعبادات السورية، فقد هاجر (بعل) سيد الأراضي البعلية إلى أوروبا مع البحارة والتجار الفينيقيين والآراميين، وتبناها الإغريق مع فنون الملاحة الأبجدية، وقد انتشرت هذه الأفكار الدينية السورية في جميع الاتجاهات، وكان لها تأثير كبير على الإغريق والرومان وغيرهم، وكذلك على الحياة الدينية في أوروبا عامة، فانتشرت عبادة الآلهة السورية في أنحاء الامبراطورية الرومانية، حتى فرنسا واسبانيا وانكلترا، وللعبادات السورية، والأزياء، والفنون، والموسيقا أثر بالغ على حياة العالم الروماني، حتى قال أحد الكتّاب الرومانيين (جو فتال: 47 – 130 م): (.. ها إن نهر العاصي يصب في نهر التيبر)، فمثلاً: إن عبادة الإله ديونيسيوس الإغريقية السرية (Mystery religion) هي على الأرجح مستعارة من الفينيقيين، وأسطورة هذا الإله، وهو إله للخصب يموت ويبعث، مشابهة في موضوعها لأسطورة (بعل) الأوغاريتي، وهذه الديانة التي هي أشهر ديانات الأسرار الإغريقية تحتفل بموت ديونيسيوس بمثل الاحتفال بموت أدونيس، أو المناحة على تموز، والأصل السوري لهذه الأسطورة يتضح في وصف مولد ديونيسيوس، إذ تقول الأسطورة: إن أم أدونيس (سيبيل) كانت ابنة قدموس ابن أجينبور ملك الفينيقيين، وأوربا الأميرة السورية التي اختطفها إله الإغريق (زيوس) وأخذها إلى اليونان، ويمضي قدموس باحثاً عن أخته، ويؤسس مدينة طيبة في اليونان، ويعلّم اليونانيين الكتابة.

عبادة (بعل) في سورية القديمة
يتميز المجتمع السوري القديم بتفرد المعتقدات والانتماءات الدينية، لكنهم يشتركون في الإيمان بالأساطير الشعبية التي تتعلق بقوى الطبيعة، والمحظورات، والنذور، فهم على اختلاف مللهم ونحلهم يؤمون المزارات نفسها لتقديم نذرهم وأضاحيهم، وبالتدقيق في هذا التيار الديني المشترك يظهر أن مبادئ العبادة السورية القديمة هي عبادة مظاهر وقوى الخصب في الطبيعة، وأنها مازالت فاعلة، وخاصة في الأرياف، فمازال السكان يقولون حتى اليوم: (أرض بعل وأرض سقي وفاكهة أو خضرة بعلية.. إلخ)، وهذا يثبت أن الطابع (البعلي الريفي) مازال ينفذ إلى كل مستويات المجتمع السوري القديم، وهو حتى اليوم يمتزج اسمه مع العديد من أسماء القرى والهضاب والسهول في سورية الطبيعية، فعلى سبيل المثال لا الحصر لدينا بعلبك أي (بعل رب البقاع )، بعل روش (بعل رب الجبل)، بعل صفون (بعل رب الشمال)، بعل شميم (بعل رب السماء).. إلخ.
وتحت طبقة هذه الأسماء المتعددة، والحكايات المتنوعة، والعبادات المختلفة نلمس نظاماً دينياً واحداً عند المزارعين السوريين، وهذا النظام الموحد هو في أغلبه يتمثّل في تراث، وتقليد شفهي يمكن تسميته: (النظام الديني البعلي) نسبة لاستمرارية تأثير (بعل) سورية القديم على الحياة الدينية عند المزارعين السوريين القدماء عبر العصور، وإطلاقنا اسم (بعلي) على هذا النظام الديني الشعبي (القديم) يحمل دلالة واضحة عن الفئة الاجتماعية– الاقتصادية التي ينتشر هذا النظام في أوساطها، وهي التي ترتبط حياتها بإنتاجية الطبيعة، خاصة الاعتماد على مطر السماء، والاحترام، والرهبة من قوى الطبيعة.
لابد لنا من الإشارة هنا أن تسميات أهل المدن وأهل الريف، بل وكل الذين ترتبط حياتهم بالغلال والمواسم الزراعية المرتبطة بالمطر، لاتزال تظهر بوضوح في تسمية الأرض التي تعتمد على المطر لإخصابها بأنها أرض بعلية كما أشرنا.
د. غيَد بيطار