ثقافة

ديوك الغريب في ملجأ محمد كنايسي!

عنوان إشكالي يأخذ قوافل التساؤل إلى فجر متعدد الأصباح. هي الدلالة المتوالدة من  الشروق إلى مطلع الغريب.. تسبقك النية الاستقرائية للولوج في جوهر الغرابة وازدواجية الرؤى..!
ولعلّ القارئ سيقف بين جغرافيتين تنتميان لحالتين من البوح والأسى معاً.
ديوك الغريب.. هي المجموعة الأولى للشاعر التونسي محمد كنايسي.
شكّل عنوان الديوان الزاخر باليوميات قولاً شعرياً مغايراً في الأسلوب.. وقد علّق في جيد كل نص جرساً، لينبّه وعينا، ويستفزّ ما فينا دون ترك باب التشتت موارباً.
يقدّم الشاعر لنا قصيدته حيناً على طبق من فضة الكلام (متعمداً).. كي نمسك بخيط التأمل في أحايين كثيرة.
تتجلى الحالات بالتلقائية والانسيابية التي لاتخلو من الموسيقا اللفظية السلسة.. ليعيد السياق إلى سكة الصياغة بكل مكنوناتها المبنية على دقائق الأمور، وبلاغة التوجس في أقصى قلقه.
“لأنساكِ
أحتاجُ ربّاً جريئاً
يعيدُكِ لي
رغمَ أنفِ الزمانِ الحرونْ”
نصوص مغربلة لمرحلة أخذت الكثير، فأفصح ببعض ما لديه، وترك للمتلقي حرية التأمل والوقوف على ناصية المعرفة.
الإشباع النصي في القول والتعبير، مكّن صداقة الذاتي بكل انفعالاتها مع الآخر المخاطب.. وكأنّ لسان حاله يقول: اليوم أتممت واجباتي الشعرية.
ولم ينسَ عامل الزمن.. ففيه المبتدأ، أي الحب، إلى خبر معلن جريء لا يخلو من التمرد على النفي أولاً وعلى ما بقي من وجوه مسربلة بالحياة.
“وها قدْ مضى العُمْرُ كالبرْقِ
والكِلْمةُ الواحدهْ
تعيشُ على شَفتيَّ كما وُلِدَتْ
غضّةً لمْ يُصبْها التّعبْ
ولا نالَ منها الزّمنْ
كما نال منّي
بعْد أكثرَ من أرْبعين سنَهْ
وقدْ شابَ شَعْري
وقدْ زادَ وزْني
وحُزني
ولا خَبَرٌ عنْكِ”
شجاعة النصوص، تكمن في صراحة الشاعر.. من ذاك الديك الذي ابتدأ فيه العنوان وكان لصياحه حكاية قلق.
كان يأمل الشاعر أن يكون عنوان إيقاظ الفجر مدعاة للطمأنينة.. ولكنْ، عندما خاب أمله، ألصق تهمة الغريب ببداية الصباح.
“غريبٌ أنَا..
قُلتُ للوردةِ الحائِرَهْ..
والغَريبُ أخٌ للغَريبْ”.
المناسبة  الشعرية والغرض المبني على الوصال مع النفس أولاً، أعطى للمعطى الحسيّ بوادر التمني.. والتمني هنا، هو إعادة الاعتبار للشعر على مبدأ فلسفي يقول بإنتاج جديد للمرئي الذي أفقده بعضهم أهم عناوينه في التجريب والخلق دون تعشيق يسقط هيبة القول الأصيل.
هكذا يتمرد الشاعر على واقع هشٍ بوضع القارئ أمام خيار الجمال فقط.. مع إنصات لصوت الصفاء الذي أخرج القلب كطير من قفص الضلوع ليعلن حرية السطور.. وكأنها مهاتفة للحظة القلقة، تلك اللحظة التي فتحت معابر الشك..(الكوجيتو).
“وكنتُ حبيسَ اكتئابي
وخادِمَ شكِّي وشوْكي
وأكْرهُ كوْنِي وظُلْمةَ لوْني”
إذن، حرية فضفاضة سالت على سطور البوح وغزت مكامن الذات بترتيب بهي ودفق تخيلي.. فيه من كشوفات الآنية ما يشي بنفس أمارة بالفتنة..!
كثافة اللحظة جعلت مرابع الاحتفاء النصي بالشكل والمناسبة ترمم “طبولوجيا” المكان الذي يقطنه الشاعر بكامل قلقه.. هذا القلق الذي أفرز عشرات الشذرات، وأعطى لتضاريس الرؤى مجداً آخر بدلالات صادقة سامقة يتبجح بها الشاعر علناً دون رسم متاهات لذلك.
“لكُلِّكِ أشْتاقُ يا قيْروانْ..
لظلّ الزياتينِ.. للناسِ.. للحيوانْ
لتكْمِلةِ العمْرِ في جُبّتِكْ..
لبحْبوحةِ الموْتِ في ترْبتِكْ”.
يوميات مغزولة برجفة عاشق متألم، يعاني نزفاً قاب ألفين وساعة. وتستوقفنا إيقاعات ولعه بالممكن الذي أقحم مفردات تحتاج إلى شجاعة مدججة بالصوت.. فلا قيود في النصوص، وهذا ما جعل الشاعر يستنبط الحفيف من أوراق رسائله الشفيفة.. ومن لِحاء أشجاره الباسقة، ألبس النصوص رقصة غجرية تبوح بسر النشوة الكامنة دهراً.. وهي حصيلة عمر مليء بالبوح والتلميح المجدي بأصالة مداه.
“لِترْقُصَ ما كُنْتَ ترْقُصُ
وتَشْرَبَ ما كُنتَ تشْرَبُ
وتَكْتُبَ ما كنتَ تكْتُبُ
وتَفْعَلَ ما تشْتهِي وَتُريدُ
متَى سوْفَ ترْحَمُنِي
أيُّها الغَجَرِيُّ العنيدُ”
ليس من الصعب أن يساهر الشاعر نجومه، فقد ربط في جذع كل نجمة حبلاً يتسلقه في بوح سوريالي و إبهار لوني جاذب. وكأنّ الغاية فقط هي استنباط واستنطاق البراكين الخامدة في الرغبة.
نصوص أمينة ومعطاءة ومسربلة بهمهمات الثواني المأخوذة بالشعرية والحداثة التي أجاد الشاعر في ملعبها، ورسم تقنياتها بحرفنة ممسوسة بالمفاجأة تعيد ألق النص وموسيقاه وتعمّق الدلالة .
“المرأةُ
ذات الأسنانِ السوداءْ
لا تضحكُ
إلّا في الليلِ
أمامَ المرآةْ
تتفقّدُ من يسكنُ
في فمِها
من أفرادِ المأساةْ”
يلوذ “كنايسي”  بقصائده إلى طفولة الحكايات. فيبدأ بالدال والمدلول والثيمات المحمولة بالتواريخ كواقعة.. ويجيء ملمّحاً في زمن اللجوء إلى أحضان الرجفة التي خطت بعد زمن قصائد في أعالي الحزن والنجوى، ورسمت في ذروة الرغبة اشتعال الغمام.
“وأنا خُلقتُ بلا جناحْ
ووجدتُ نفسي ذاتَ يومٍ
بينَ موجِ البحرِ
أركُضُ كالسّمكْ
فالبحرُ ربّاني صغيراً
رغم أنّي في الطفولةِ
لم أذقْ بحراً
ولا رملاً”
ديوك الغريب..صيحات تتكئ على عكاز النرجسية المتوهجة عند الشاعر في أغلب النصوص.. لتشكّل خط دفاع عن أحاسيسه وقوله وأحلامه وكثافة عناوينه.
في ديوك الغريب.. مفردات نجاة تتربع على تاء مربوطة بعلامات ملونة..
ونهضة شعرية خالصة لتخليد الدلالة بكل رحابة صدر.. ومن هنا، يجيء الشعر مزهواً وتواقاً للغوص في لجة الصدى وحوار التجليات.
/الديوان صادر عن
دار الشرق في دمشق 2017 /

رائد خليل