“سينما الرواية” عندما تغدو الوسيلة أنبل من الغاية
تعتبر العودة إلى الروايات وإعادة إنتاجها بصريّاً أسلوباً ناجحاً لطالما اتبعته السينما، والذي تحوّل ليصبح تقليداً وتراثاً له جذوره الموغلة في القدم كما له مسبّباته الموجبة لصنّاع السينما بشقيها الغربي والعربي.
لقد واكب اقتباس النصوص الروائية وتحويلها لأفلام سينمائية تاريخ السينما منذ نشأتها إلى اليوم، لا بل أصبح في جزء منه هو القوام والأساس وباتت حبكة تلك الروايات هي الأصل ولها الكلمة الفصل في نجاح الفيلم أو فشله.
وباستعراض بسيط لأفلام السينما المنتجة في السنوات القليلة الماضية تفاجئنا الأرقام والحقائق التي تثبت لنا بما لا يدع مجالاً للشك، أن النص الروائي هو المسيطر على نصوص السينما، وأن معظم الأفلام الناجحة تجارياً وجماهيرياً هي ذاتها تلك الروايات التي أقبل جمهور القراء على نسخها الورقية بنفس النهم الذي أقبلوا به على النسخ الفيلمية لتلك الروايات.
وبين مؤيّدٍ ومعارض لعملية النقل والتّحويل هذه يبرز السؤال الأهم وهو ما الذي يدفع استوديوهات السينما وصناعها للجوء لتلك الروايات وتحويلها بصرياً لقصة فيلمية، ثم هل حقاً تعتبر عملية النقل هذه مسيئة لأصل النص الورقي…!!؟
لنتفق أوّلاً أن المرجع الوحيد الذي يعود إليه هؤلاء في اختيار تلك النصوص هو النجاح التجاري الذي تحققه هذه الروايات والإقبال الجماهيري عليها بغض النظر عن إمكانية تحويلها لشريط سينمائي مصوّر، والذي بات بحكم المؤكّد مع تلك التقنيات الحديثة التي تشكل بحدّ ذاتها أعجوبة من أعاجيب التطور التكنولوجي.
الحقيقة إن التفسير المبطّن اتهاماً لصنّاع السينما أنهم يلجؤون لتلك الروايات عندما يشح خيالهم وعندما تفتقر نصوصهم المعدة سلفاً للسينما من الإبداع وتكون محدودة التأثير وخالية من التجديد والابتكار، لذلك نرى أن السينما تلجأ لتلك الروايات لتحقيق حالة إبهارٍ بصريّ مضاعف لجمهور كان قد تشكلت لديه حالة إبهار مسبقة أثناء تذوق تلك الروايات نصياً بصفحاتها الورقية، وإن لم يكن الأمر كذلك فلِم تلجأ شركات الإنتاج للروايات الناجحة فقط!!؟
لِم لا تلجأ لتلك النصوص المهملة على رفوف المكتبات وإلى الأسماء المغمورة…!؟ ومن هنا وبغض النظر عن المحتوى الأدبي والقيمة الإنسانية لتلك النصوص فإن السينما تدعم التجارة الرابحة والنص الرابح حتى لو أدى ذلك بطريقة أو بأخرى لدعم فكرة أو طرح أخلاقي أو غير أخلاقي، فبالنهاية ماهو مقبول وماهو غير مقبول وجهان لعملة واحدة، وهي ذات العملة التي تسعى إليها شركات الإنتاج السينمائية. فالدافع هو المال فقط بالنسبة لها بالإضافة لخلق حالة ذهول لدى هذا الجمهور باستخدام تلك التقنية الحديثة التي تطوعها خدمة للنص، والتي تساءلت عنها حقاً وأنا أتابع أفلام هاري بوتر بأجزائه السبعة، وتعجبت من قدرة الكاتبة على إبراز تلك التفاصيل الدقيقة، ثم حين قرأت الرواية صحّحت اعتقادي وتساءلت كيف استطاعت تلك المؤثرات الخارقة أن تبتدع كل هذا الألق والسحر لرواية بدت لي نصياً أقل سحراً وتوهجاً.
وهذا يدفعني للتفكير بمنحى مختلف أنه وعلى الرغم من الربح المادي وأهميته في صناعة السينما والذي يشكل الهدف الأول لها، إلا أني أجرؤ على القول أن تحويل النص الروائي لفيلم ليس له أضرار أخلاقية أو حتى أدبية على الجسم الروائي والقيمة الأصلية لأي رواية. فأولاً أغلب تلك النصوص الروائية التي أثرت المكتبة الأدبية لسنوات تحولت لماكينة الصناعة السينمائية بإرادة كتّابها، وبموافقتهم المسبقة، ولا أتوقع أن يكون أي منا حريصاً على تلك النصوص أكثر من أصحابها أنفسهم، ثم إن القسم الأعظم لتلك الأفلام تمت متابعته بل والتدخل بأدق تفاصيله من قبل هؤلاء الروائيين أنفسهم لضمان عدم انتهاك أي حرف أو قيمة، أو حتى تفصيل صغير أراد التوجه به للجمهور، أضف إلى ذلك أنّ السينما بتحويلها تلك النصوص لأفلام لم تؤثر على البيئة الورقية والقاعدة الجماهيرية لها، فهي إما استمدت منها النجاح فزادتها نجاحاً أو فشلت تلك الأفلام في أحيانٍ نادرة ولكن ذلك الفشل لم ينتقص من النجاح الذي حققته الرواية الأم. والأهم من ذلك أننا لا نستطيع أن ننكر على الكتاب والمؤلفين الروائيين فكرة تسويق منتجهم بالطريقة التي يرون أنها تضمن لهم الوصول الأسرع لقلوب الجمهور، ومعه لن نكون قادرين على أن نغمض أعيننا عن حقيقة أن الأفلام والتواصل البصري الحركي الملون هو الأسرع والأكثر قدرة على الولوج والتحكم بمشاعر السواد الأعظم من الجمهور، الذي قد يحد قدرته لسببٍ أو لآخر متعة التمتع بهذا النص الروائي بشقه الورقي، ولكن سيبدو له النص الفيلمي أكثر قرباً للفهم وأكثر صراحة في الشرح والتعبير وأكثر سهولة.
وعلى هذا لا يمكن أن نعتبر أن تحويل أي نص لفيلم سينمائي هو انتقاص من ذلك العمل أو من كاتبه، أو من مكانته في قلوب ووجدان الجمهور، بل يجب أن نعتبر إن كنا عادلين أن تحويله لعمل سينمائي إنما هو بسبب نجاح هذا النص الأدبي وهذا بحد ذاته نجاح آخر يضاف إلى قيمته، والذي طوّع منتجوه كل التكنولوجيا المتاحة لإخراج تلك الصورة التخيلية الموصوفة كلمات لدقائق سينمائية صريحة مُعلَنة ستسهم في فهم أوضح لتلك الكلمات وتشكل وجوداً لها يبدو أكثر واقعية وأكثر فهماً وقرباً للوجدان.
ويبقى في النهاية للجمهور حرية اختيار طريقة التصفح التي تعجبه فإما رواية يقرأها أو فيلم يشاهده. وبكل الأحوال يبقى الكاتب والجمهور والنص هم الرابحون دوماً، أما في الحالة الثانية فيضاف إلى قائمة المستفيدين شركات الإنتاج التي سيكون لها نصيب لا يستهان به من هذا الربح “مادياً”. ربحٌ يبدو لنا مشروعاً ومعقولاً لهذه الشركات في ضوء المنفعة التي تقدمها لنا إن كان عن قصد أو من غير قصد.
إذاً فلنأمل نحن جمهور تلك الروايات أن يستمر هذا التقليد الذي دأبت عليه صناعة السينما بتحويل هذه الروايات لأفلام تمتعنا لعقودٍ قادمة، وتحفظ هذا النص بصرياً، ويستفيد هو الآخر من تقنيات السينما كما نستفيد نحن وتزداد متعتنا بمشاهدة شخوصنا الخياليين مجسدين سينمائياً.
بثينة أكرم قاسم